السبت، 6 مايو 2017

مواسم الأمهات

كما تزدان الأرض بمواسمها وهي تمارس طقوس الصبر وتخفي في داخلها جذور التعب لتخرج لنا في النهاية أشجارها وخضرتها بعد أن تطلق العنان للعشب كي يتمدد على ضلوعها ويتشبث بردائها وبعد أن تتحمل ابتلاع خرير الماء ورقص الأمطار وركض البشر ولهاث السيارات والشاحنات والقطارات بينما تظل تحمل محافظة على بشاشتها وابتسامتها، وعلى الرغم من قصص العناء تظل رمزاً لعنفوان الحكايات التي يزيدها التراب رونقا عندما يتغلغل فيها لتخرج أزهار الجاردينيا والجوري وثمار الفاكهة وقطوف العنب وحبات الكرز، هكذا هي مواسم الأمهات المعجونة بطين الصبر والمروية بتعب لحظات الانتظار والخوف، فهن وحدهن قادرات على احتمال ما لا يحتمل، وهن وحدهن من استطعن حل معادلة القرب من الكمال في رحلة الركض اليومي نحو أفق التضحيات. إنهن الأمهات السائرات نحو المستحيل بخطاهن المتعبة على أشواك الحقائق ووخز الذكريات يسابقن الزمان ويركضن في الطرق لجلب ورقة حظ واحدة لأبنائهن تكون مكللة بالدعوات التي لا تتعب ولا تكل من لهاث الحقائق، فلكل أم مواسمها وأمطارها وتحدياتها التي تحاول تجاوزها حيث يظل النبض راكضاً في كل الطرق يتابع خطوات المسافرين والغائبين ويواسي المقاعد الخالية والزوايا المهاجرة والغرف الصامتة والأواني التي تنتظر ملاعق الصغار العائدين من المدرسة وألحفة النوم التي هجرها الدفء وغاب عنها الراقدون ومضوا إلى نداهات الحياة وتركوها على ناصية الانتظار تتحرى الثواني لتطمئن روحها بلقياهم.
 وقد لا يكون في يوم أعياد الأمهات أكثر من حالة ردع للذاكرة واستعادة لتجارب الصحو والخروج من حالة الغياب والعودة إلى أول نقطة في حياة الإنسان أول قطرة ضوء لمحها من ابتسامات الرضا تلك التي لا تنسى ولا تغيب عن الخاطر؛ ففي وجوه الأمهات يتفوق العطاء والإيثار على كل الخصال، يمر عام ويأتي غيره آخر وتتوالى الأعياد ما بين الذاكرة والنسيان في منطقة يظل فيها رابط خفي بين أمهات الكون وأرواح البشر بمشاعر تهطل بالفطرة وتتعاظم بفعل الحنين وانحناءات الذكريات ذلك الميثاق الذي يكبر في دواخلنا دون استئذان ودون أسباب أو مبررات، هذه الأم التي إذا حضرت جلبت معها كل أجندات السعادة ومواسم الصحو والإشراق وإذا غابت أقفر الكون وتلاشت معه كل معاني الحياة، وكأن ذلك النبض الذي يدق نواقيسه في قلبها طقس لاحتراق آخر لشمعة ظلت تضيء درب المتعبين من أبعد نواقيس الصبر.
 فهل يمكن أن يمر هذا اليوم هيناً على من فقدوا أمهاتهم ومن حرموا من بهجة لقائهن أو من هجروا دقات الحضور؟ هل يمكن أن يمر هذا اليوم طيفاً قابلاً للزوال على من تنكروا لمواسم الأمهات ونسوا مواقيت النور كيف يمكن أن يمر هذا اليوم دون دمعة أو غصة أو حتى دون نوبات الحنين! كيف يا أمي ويا أمهات الكون يمكن أن لا نواسي في قلوبنا رفيف الثواني وخفقات الدقائق في مواقيتكن الدافئة والحنونة وأن لا نركض لنختبئ في أهدأ مكان بعيداً عن كل الضجيج؟!
 قال شكسبير «ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم».

ليست هناك تعليقات:

اخر التعليقات