الخميس، 16 مارس 2017

البرد والرصاص

لطالما شبهت أمي البرد بالرصاص، وقالت لي إن مصدر الشبه يأتي من القسوة، فكلاهما لا يتراجع عن قرارات حضوره ولا برودة مشاعره، ولا عن اختراقه حالة الدفء والحيوية وهمس الحنين وهو يستولي على الهدوء ويرسخ فكرة الضجيج ما بين البحث عن مكان آمن قرب مدافئ الشتاء، وما بين البحث عن ظل جدار مهدم يمكن أن يخبئ خلفه أجسادا تشبه العصافير وهي تحاول الانفلات من رصاص القناصة.. هذه المشاهد التي تجمع الشبيهين وصارت تتكرر في موسمنا العربي الحالي الذي نزع منه فتيل الرحمة ودوى فيه صوت الرصاص عاليا؛ ليتحدا معا في فلسفة القسوة التي زادت من معاناة اللاجئين من ويلات البرد ولا يجدي معها التواري والاختباء، فلا الربيع العربي كان حنونا على صغار الشام بما يكفي للحياة، ولا البرد ولا الحر والمواسم المصطنعة استطاعت أن تحيي الأمل المسفوح بين شوارعها؛ لأن لحظات الموت التي حضرت بعد أن انهارت الجدران التي تحميهم من ويلات تقلبات الطقس والمناخ العربي، كانت قاسية بعد أن سكنتها حالة مستدامة من القصص التي لا تصدق عن ألحان الرصاص التي حلت بدلا من دبكة الشام والعتابة والميجنة ومعزوفات البجعات الصغيرات في بحيرات الشام، بعد أن صارت الأيام تجمع أكياس العواصف على مفارق المدن يعبئها عشاق الدماء وقناصة قلوب النعناع، يخرج عنوة ليفتش عن ألف نزار قباني ينظم حكايات لجوء جديد لم تخطر على بال قصائده ولم تتغن بها بردى والزبداني، لننقب في مذكرات غادة السمان عن «كوابيس الشام» التي لم تستطع جمعها في صرة كتاباتها غير الملتزمة عن قناصة أرغفة الخبز المتدلي من النوافذ، وعن شقائق نعمان الماغوط وروايات حنا مينة عن ثلج يولد وحيدا في الشارع دون نافذة، نحتاج أن نقول لفيروز نعم صدقت عندما قلتِ على لسان الشام «كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا.. وأنا هنا جرح الهوى وهناك في وطني جراح».
فماذا بعد؟
 لا أكثر من حاجتي اليوم إلى رصاصة دافئة لا تشبه الشتاء ولا المستحيل، ولا تقتل بدم بارد، رصاصة حنونة خالدة أخبئها في جيبي العربي وأتلمسها؛ لأعرف أنني أملك قوة الحق والدفء الذي رحل عنا، وأرقد وأنا أغمرها بكفي لأقول بكل ثقة «لا تزال هناك رصاصة في جيبي».
 أحتاج معزوفة واحدة للموت لا تشبه غيرها، ولا تقبل التكرار ومعزوفات للفرح.. للرصاص، يزغرد على بوابات منازلنا في زفة عرس عربي، لا يشبه الحسرة، ولا يعاني من الإحباط والألم ورفض القتل والحرب والدمار.
 أعطني ذراع محمود درويش لأحارب، ورياحه لأسير، ولا توصي معزوفات الرصاص على قلبي، فهو لم يعد يحتمل الحنين ولا الذكريات، ولم يعد يستوعب دروس القتل في مدرستنا العربية، ولا هذا الكابوس الجاثم على خيمتنا وعلى ملحنا وجرحنا الذي نسجناه بأيدينا، ونحن نراهن على زغرودة رصاص واحدة يمكن ألا يبتلعها المدى والغيم ولا تخطفها مراكب الحنين، تلك التي نحتاج أن نستيقظ منها ومن خيالات الظنون قبل أن نؤكل كما أكل الثور الأبيض.

ليست هناك تعليقات:

اخر التعليقات