الاثنين، 19 ديسمبر 2016

مدافن الانترنت

في تطور كبير لمجريات عملية التبادل التقني والمعرفي المذهلة والمتسارعة يمكن أن تحدث أشياء متوقعة وأخرى غير متوقعة نلاحظها من خلال حالة الرصد اليومي لحالات النبش في قبور المرسلات والمستقبلات التي يتم نشرها على صفحات الإنترنت مع غسيلنا اليومي وتقاسمنا مفردات التقنية مما قد يفاجئنا حول أسباب عودة بعض الأشخاص بالزمن إلى الوراء لسنوات طويلة للبحث في السجلات المؤرشفة لأشخاص مستهدفين والعمل على نفض الغبار عن معلومات قديمة وإيقاظ خلايا المقاطع النائمة التي قد مرت سابقا دون أي التفاتة أو تدقيق من أحد لإعادتها إلى الوجود بتعزيز من نماذج غريبة في المجتمع تجند نفسها لمقاضاة الماضي ومنشوراته من خلال القيام بعمليات إنعاش رئوي لبعض المقاطع والمعلومات القديمة وإحضارها من عالم الغياب إلى واقع المساءلة القانونية والمجتمعية أو لأهداف شخصية أو مآرب قد لا تخطر لنا على بال ودون أن نجد تفسيرا منطقيا لمن يقف خلف هذه الحالة من الإثارة والمنتفعين من استحضار هذه المقاطع وتوجيهها إعلاميا وإغراق وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات مؤرشفة دون وضع أي إيضاحات مما يؤدي إلى استثارة المجتمع وحفز هممه وردوده حول قضية أو شخصية ما بهدف إشغال الرأي العام والإعلام لوضع تفسيرات لمقاطع منتهية الصلاحية بسبب تعاقب السنوات ومرور الزمن مما جعل مثل هذه المقاطع أو المعلومات من كتابات أدبية أو نثرية أو معلوماتية وسيلة للانتقام وتحريك المشاعر تجاه قضية بعينها وفرض قوانين تحاكم الأشخاص لتهورهم في نشر معلومة أو مادة أو مقطع.
 فإذا أردت الانتقام من شخصية أو محاربة فكرة ولم تجد سبيلا واقعيا حاضرا فما عليك سوى أن تنبش في مدافن الإنترنت وكافة أدواتها التي يمكن من خلالها أن تحصل على معول تستطيع من خلاله إيقاظ نقمة مجتمع أو تفريغ شحناتك السلبية تجاه ما تريد بطريقة وحيدة تقوم على حالة التتبع والتقصي والبحث الذي يمكن أن تعثر من خلالها على هفوة تودي بغريمك إلى هوة سحيقة!
 ومن هنا ومن خلال كل هذه المعطيات لابد أن نستيقظ من حالة اللامبالاة التي نعيشها في تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي وأن نتخلص من عقدة القص واللصق ومن حالة التهور التي تنتابنا أحيانا في تعبيرنا عن وجهة نظر لابد وأن نتوقف قليلا قبل أن نضغط «كلك» على كلمة نشر التي تتطلب كثيرا من الوعي والمراجعة والإدراك والتأكد قبل أن نعرض أنفسنا لقوانين عقوبات الجرائم الإلكترونية والمعلوماتية التي قد نتورط بها دون أن ندري أننا نمارس فعل تأجيج الرأي العام لأسباب انفعالية أو نتيجة ردة فعل لموضوع يقف خلفه أشخاص يهندسون الشائعات ويعبدون تأهيل وترميم قضايا الماضي وكأنها آنية لتحقيق أهداف مجهولة لا يعرفها غيرهم وحتى لا نتحول نحن إلى أدوات عمياء تحقق نتيجة المعادلة دون أن تعرف طريقة الحل.
 علينا أن نقرأ وندرك ونختار ما يصدر منا عبر هذه القنوات حتى لا تتحول هذه المفردات إلى أدوات لتصفية الحسابات وقرائن توقعنا في شراك المساءلة والعقوبات القانونية.

قدود الموت الحلبية

كل شيء يتهاوى في “حلب” لقد فرض الموت لحنه الجنائزي على ياسمين الشام ومواسم بلحها وأزقتها وحاراتها العتيقة وتجاوز حنين القدود الحلبية التي توجتها لعصور طويلة عاصمة للموسيقى العربية إلى نضوج الوجع وحلول الخراب والدمار.
 لم تعرف قدود حلب أنها ستكون مضطرة لتأليف مقطوعات الموت الجماعي وأن هذا اللحن سيخرج عفويا من أنين الثكالى وصمت الأرواح التي أطبقت عليها المنازل أن هذه الترانيم ستسكن أحجار الطرقات وأعمدة المباني المهدمة لتفرض صورة لمدينة أشباح عربية جديدة.
 كل شيء تغير بفارق مسافة بعد السماء عن الأرض وبفارق بعد معاني الحياة عن الموت الذي صار يطبل ويخرج من كل مكان يطل من النوافذ ويتساقط كالمطر من عنان السماء تلك التي لا تعرف سوى الرحمة وبركات المطر فهل سمعت عن سماء تمطر جحيما أو ترمي حمما أو تغرق أبناءها بهدايا الموت الرديء؟ هذه التهم الموجهة إلى السماء باطلة فهي ليست مسؤولة عن جرائم البشر وتفننهم في إيجاد هوية للموت الذي يبرر نفسه دائما ويتركنا لصمت صدمته الأولى وصبر اللحظات الغابرة نضرب الكف بالكف ونحن لا نصدق أن ما يجري هو حقيقة وليس كابوسا عربيا يطارد أحلام الحياة وعيون الصغار التي لم تعد تفهم كيف تفسر وتستوعب حجم ألعاب الكبار وإشكاليات القوة والبطش وشريعة الغاب.
 لم يستطع نزار قباني أن يقرأ في هذه المدينة سوى الحب عندما قال كل دروب الحب تؤدي إلى حلب لم يكن يعلم أن مدينة بأكملها ستعجز عن تفسير أسباب التحول بين الحب والحرب والموسيقى والشعر إلى مفارق الموت واجتثاث أرواح الأبرياء من عمق الحياة.
 لم تعرف حلب التي يفيض الجرح منها أن مسلسل الموت طويل كطول ليالي الشتاء وأن قلة الحيلة العربية ستقف لتواسي هول الموت بالبكاء.
 سامحينا يا سيدتي فوجعك أكبر من احتمال نشرات الأخبار وقوافي الشعراء وقصائد المرثيات العصماء سامحينا إذا كنت تقدرين على السماح كما قدرت على احتمال فاجعة السكوت الذي يأتي بعد عواصف الخوف والفزع وتقارير الأنباء التي حولت الإنسان إلى رقم يضاف إلى قوائم القتلى أو المصابين الرخيصة.
 كل دروب الحياة تؤدي إلى روما وكل دروب الموت صارت تؤدي إلى حلب “هذا هو المعنى المختلف ما بين الدروب السحيقة التي هوت بسكان مدينة بأكملها إلى جحيم الموت وما بين عالم سيغرق بعد أيام في احتفاليات رأس السنة الجديدة ليثبت إنسانيته وتحضره وهو يرتدي بذلته السوداء الأنيقة ويضع وردة حمراء في عروة الجاكيت
 بينما يموت أطفال حلب وسط ويلات الخرس المطبق وهو يرتب فوضى الدمار المبعثر في كل الزوايا ذلك الذي لا يعرف كيف يواسي أحدا وليس لديه أي استعداد لأن يبرر بطش آلة عسكرية أطاعت بطش الطغاة.

الاثنين، 28 نوفمبر 2016

الجروح المفتوحة

هل نحتاج إلى عمليات جراحية سريعة وواعية لإغلاق جروحنا المفتوحة؟ وهل تجدي إجراءات الإنعاش لإنقاذ الرئة العربية الأخرى في سوريا والعراق وليبيا واليمن؟ والجرح العميق في فلسطين؟
لا يمكن لأحد أن ينكر أن كل ما يجري ليس أكثر من حرب استنزاف غرق فيها العالم برمته وخسرنا فيها جميعا بغض النظر عن نظريات المؤامرة والتآمر، ومن تآمر على من!
جميعنا خسرنا من تغذية هذه التصدعات السياسية والانقسامات، وفيما يبدو أننا استدرجنا إلى وحل «السقوط المر» الذي يضعنا أمام مجموعة من التساؤلات التي نحتاج إلى مدة زمنية طويلة للإجابة عليها فكم من الوقت يكفي لعلاج هذه الجراح النازفة؟ وما هي المدة الزمنية التي تحقق عودة النازحين السوريين واليمنيين والعراقيين إلى بلادهم؟ وهل ساهمنا بدور العاجز في تفاقم هذه الجروح ووصولها إلى حدود اليأس دون أن ندري؟
ولماذا كلما بحثنا عن رقعة لهذا الثوب العربي ابتلينا بثقب جديد أكثر اتساعا من السابق لتظل هذه الصراعات سببا في زيادة النزف واستمرار العنف حتى صرنا نتقبل مشاهد القتل والتدمير والتشريد، وكأنها من المسلمات التي لا حول لنا فيها ولا قوة ليظل الصراع سببا لمزيد من الحروب وتجنيد المقاتلين واستنزاف ثروات المسلمين وتعميق الانشقاق ونمو الأيديولوجيات المتطرفة التي خلقت هذا الواقع السردي الذي حول هؤلاء الحرافيش والهجامة المنسيين والساقطين من أفلامنا وهويتنا العربية إلى قتلة مشهورين بفعل الدعاية الإرهابية على شبكة الإنترنت وتهويل قوتهم البائسة، فلم يعد غريبا علينا أن نسمع مسميات لأشرس القتلة وألقابهم وتفننهم في سلخ وحرق وقطع الرؤوس، كل شيء في هذا الزمان الصعب عادي لم نعد نجد صعوبة في تقبله بصمت وبقلة الحيلة، يقول تقرير «جلوبال ترندز 2030»، الذي تحدّث فيه مدير الاستخبارات القومية الأمريكي عن «اختلال توازن مُحدق» في المنطقة، حتى قبل ظهور تنظيم داعش واندلاع الأزمة السورية؛ حيث تحقق عدد من أسوأ السيناريوهات المذكورة في ذلك التقرير بوجود جروح مفتوحة في سورية وليبيا واليمن وغيرها من الدول، الأمر الذي يمهّد الطريق لمشكلات خطيرة على المدى الطويل هذه المشكلات لن تؤثر على هذه الدول بمفردها، وإنما سيكون تأثيرها كبيرا على العالم بأسره الذي قد لا تجدي معه أي إجراءات احترازية، فكل يوم نستيقظ على انهيار جديد، وجرح جديد، وكابوس تحول إلى حقيقة، تحاصر مستقبل الأمة العربية والإسلامية، وتضع كماشة الإرهاب حول مصالحها الاقتصادية والسياسية والفكرية، وتجعلها في حالة انشغال لردم الهوة التي تتكاثر يوما بعد يوم وتتطلب جراحاً ماهراً يستطيع أن يعالج هذا الوجع الذي لن يندمل إلا بوحدة عربية إسلامية تقوم على تغليب المصالح العليا للعالم الإسلامي على الخلافات الوقتية والتخلص من الإرهاب، ومعرفة المتسبب والمستفيد من أجندة الاستنزاف، ومن تغييب وتسويف الجرح الفلسطيني، وقضايا اللجوء عن الفكر العربي، وإشغاله بقضايا خلافات سياسية تعمل من خلالها القوى العظمى على إشعالها للوصول إلى السلطة والسيطرة حتى لو كان ذلك على حساب دماء الأبرياء، وحياة أمة بأكملها كانت تتلمس طريقها بعيدا عن قوة الاستعمار والتحكم، وتحاول أن تخلق وجودها، وأن تنعم بحضارتها، وأن تبني مستقبلا أمنا لأجيالها القادمة، فمن سرق منا حتى الأحلام وحولنا إلى بائسين في انتظار خبر واحد أو وقفة ضمير وإنسانية واحدة ترفض ما يحدث وتعيد جدولة العالم في أجندة الضمير الإنساني الحي والصادق؟
يقول الشاعر محمود درويش:
«أكبر تنازل تقدمه في حياتك هو أن تتأقلم».

الخل أخو الخردل

في مقارنة بسيطة حملها رد مواطن فلسطيني سألته المذيعة عن أفضلية الخيارات بين انتخاب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أو المرشحة هيلاري كلينتون فرد قائلا «الخل أخو الخردل»، وفي هذه الجملة البسيطة يمكن أن تعرف وجهة نظر الشعب الفلسطيني تجاه المعارك السياسية والانتخابية الدائرة في العالم، كما أن تفهم رؤية هذا الشعب لكافة النزاعات المحمومة على السلطة وفرض السيطرة التي تتلخص في حالة تشابه «الخل بالخردل» لتعرف أن الفارق بين الأشياء عنده أصبح هشا وتافها، ولا يحقق أي تغيرات نوعية، وهذا الأمر يعتبر طبيعيا إذا ما شعرنا أن الإنسان الفلسطيني ذلك المعتقل خلف جدران الصمت في السجن الكبير في غزة، أو اللاجئ الذين سكن مدن وقرى وكهوف العالم وتعب من البحث عن هوية أو عن معنى وطن قد حصل على قناعة وثقة كبيرة أن كل ما يجري لن يغير من الوضع الفلسطيني، ولن يستطيع أن يوازن الخطى المتعثرة للسلام، وأن جميع هذه الإجراءات السياسية التي تجوب العالم شمالا وجنوبا وغاب أو غيب عنها الفلسطيني أصبحت لا تمنحه رغيف خبز أو قطرة ماء أو ساعات إضافية من الكهرباء أو الغاز أو بطانية تحميه من برد الشتاء ليستطيع أن يتكيف مع ظروفه الإنسانية، وأن تزيح عن كاهله ويلات التجويع والحصار والموت البطيء في غزة وإشكاليات الاستيطان والتهويد والاعتقالات في القدس والضفة أو تدفع عنه فاتورة اللجوء بعد أن فقد كل عناوين العودة واحتفظ بالمفاتيح. لقد صار ينظر إلى كل ما يجري بطريقة لا مبالية بفكره لا تحفزه على قراءة واقع ما بين السطور الانتخابية أو الحركات السياسية التي لم تحرك ساكنا في قضيته على مدار أكثر من ستين عاماً. هذا الفلسطيني الذي يتعايش مع الاحتلال لم يعد يهمه أو يعنيه التفكير في حالة الرفض أو القبول لتداعيات ذهاب قياداته للتعزية في شمعون بيريز أو عدم ذهابها! أو في كل مؤتمرات القمة العربية والدولية ولا الفيتو الظالم.
لم يعد يريد أن يعرف الفرق بين أهمية مبادرات السلام أو وضع خارطة جديدة لطريق الحرية الفلسطيني المملوء بالمؤامرات والمواجع، لم يعد يفكر في كل هذا الضجيج؛ لأنه يعيش حالة حرب أخرى في حالة التعايش والحياة في وطن مكبل بالأصفاد والنهايات المفتوحة على الجراح؛ لأنه منشغل بترميم مواجع أبنائه الذين تركت الحروب بصماتها في قلوبهم وأجسادهم، وهو يبحث عن مخرج للأسرى والمعتقلين وحالة النزاع الداخلي المحتدمة في الصف الفلسطيني. هذه اللا مبالاة ولدت من استفحال الألم والتجويع، ومن ثبوث التوقيت الفلسطيني على ساعة التصبر والتقبل والتأقلم، ولسان حاله في كل الأحوال مثل شعبي قديم يقول «يا قرد بدي أسخطك» بمعنى أكثر من قرد ماذا يمكن أن يكون؟

القمر العملاق

كانت فرصة ثمينة لكي يتشارك سكان الأرض بهجة القمر العملاق، ذلك الذي قرر أن يخرج في أبهى حلته ليعلن اكتمال «بدر البدور» في سماء العالم أجمع، بعد أن حشد حوله عيون البشر فقاموا بمراقبته بعيدا عن أي تمييز كان لهم جميعا ذات الحق في الاستمتاع بهذه اللحظة والركض إلى أعلى منازلهم وشرفاتهم وشوارعهم لمراقبة حالة الاكتمال والنضج الضوئي ووفقا للحسابات الفلكية، فإن هذا القمر الذي ظهر يوم 14 نوفمبر 2016م وقع في حالة مشابهة من حيث المسافة قبل حوالي سبعين عاما وتحديدا يوم 25 يناير 1948، وأنه سيتكرر بشكل مشابه سيكون يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2034 م، وسواء أكان موقعنا الجغرافي شمال أو جنوب خط الاستواء في أكثر المناطق قربا أو بعدا من هذا الوهج، إلا إننا أخيرا تقاسمنا رغيف القمر مع غيرنا من الأمم، وعدنا لليلة كاملة إلى حالتنا الإنسانية في الاشتراك وتقصي حزمة الضوء، عدنا إلى رومانسيتنا ونحن نتسابق ونتنافس في تسجيل لحظة اقترابنا منه للحظات أو لساعات تمكنا من الركض بعيدا عن متاهات الحياة وانشغالاتها، توقفنا لنرقب عودة الغائب الذي عاد دون مواعيد في ليلة من أعراس الضوء، جاء أخيرا بعد أن كانت إطلالته السابقة ليكون شاهدا على أقسى حقبة تاريخية سجلها تاريخنا العربي، وهي هزيمة العرب في حرب 48 ضد الصهاينة، وذلك عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، وغادرت القوات البريطانية، وأصدرت الأمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية، الأمر الذي عارضته الدول العربية، وقامت بشن هجوم عسكري لطرد الميليشيات اليهودية، ومنيت بهزيمة نكراء.
ربما لم يكن لدينا الوقت الكافي حينها لأن ندرك اكتمال البدر ولا أن نكتب قصائدنا العصماء عن وجه الشبه بين المرأة والقمر، ولا عن مقارنته بالشمس وغيره من الكواكب، ولا في التفسير العلمي لظهوره واكتماله وخسوفه، ربما في تلك الحقبة من ظهوره لم يحالفنا الحظ في أن نعرف أن هذا الاكتمال يعتبر من أجمل وأبدع الظواهر الكونية، وأنه كان يستحق منا التفاتة تكريم لهذا الحضور العظيم، وها هو يعود ليعتلي أسطح منازلنا وينجس ككومة من الفل المضيء اجتمعت في سمائنا لنقف لليلة واحدة نرقب ونترقب ونجلس خلسة في مكان بعيد نحتاج فيه إلى الصمت والهدوء بعيدا عن الضجيج، وقد ننصت قليلا لفيروز وهي تغني «يا قمر البعيد خلفك حبايبنا» أو أغنية خايفة لأنام وينزل القمر».
قالت أمي التي كانت أحد شهود العيان إنها لم تعرف عن وصول القمر إلى قبة السماء في عام 48 لأن الحرب التي لوعت قلوب الناس حتى نسوا هذه المناسبات الكونية، وجعلتهم يبحثون عن مأوى لمنابع الخوف، قالت إنه على الرغم من التحاف اللاجئين السماء إلا أنهم، ومن هول الحرب لم يتذكروا شكل النجوم ولا لون القمر، كانوا يختبئون منه خوفا من جحيم الحروب.
وفي هذه المرة جاء ليشهد من جديد على معاناة جديدة تحمل ذات السيناريو الشرس في مناطق مختلفة من الخارطة العربية، ولا أدري هل كان لدى سكان حلب والموصل واليمن من الوقت ليتساءلوا عن جمال البدر، وعن بعض النظريات الزائفة عن تأثيره على سلوك البشر، أو عن إعلانه عن مزيد من الكوارث الطبيعية والإنسانية؟ هل كان لديهم الوقت كي يعيشوا مثلنا لحظات التتبع والغرق أثناء وقوفهم على سجادة الضوء؟ وهل بقيت للقمر بهجته وهو يرقب خروج أطفال حلب من تحت الردم والركام؟ أم أنه ظل صامتا كما صمت في عام 48؟. هذا القمر الذي أخذ نصف ذاكرتنا العربية ونحن نتغزل في محياة وفي جمال هالته ووهجه، ولم تتغير قناعاتنا العاطفية تجاهه حتى بعد أن عرفنا أنه كوكب مظلم لا يمتلك مصدرا للإشعاع، وأنه لا يملك سوى القدرة على عكس الضوء، وعلى الرغم من ذلك أحببناه ومضينا نسرح في مسارب ضوئه؛ لأنه كان دائما يعكس حكاياتنا الإنسانية بكل صدق.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

التربية الإعلامية وحراسة البوابة

عندما يتخلى القرَّاء، والمستمعون عن وكالة أنباء المجتمع، التي تحمل عنوان «يقولون»، وعن عمليات النسخ واللصق الرتيبة والمتكررة في محاولة لتوثيق معلومة، أو التأكد منها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حينها يمكننا أن نتحدث عن خروجنا من عنق زجاجة البحث عن أسباب التجاوزات الإعلامية التي اجتاحت حياتنا، ووصلت إلى وسائدنا الخالية لتملأها بالغث والسمين، وتتركنا ندور في حلقتنا المفرغة من الأسئلة المكوكية التي تتطاير كفقاعات الصابون، وما تلبث أن تختفي لتحل محلها أخرى في محاولتنا لتحري الحقيقة، والتثبت منها، ونحن نسأل: هل هذا الخبر صحيح أم مفبرك؟ ولكن الجواب لا يجب أن يكون بنفس براءة السؤال، وإنما يحتاج إلى التفكير والاهتمام بالتفاصيل. وفي قصة جون، مؤسس سلاسل مطاعم ناجحة في أوروبا، يقول إنه حين كان شاباً نظر إليه نائب الرئيس في «فنادق حياة»، وقال له: «أنت تنظر لكنك لا ترى». هذه النصيحة كانت كناية عن قلة اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة، الأمر الذي استوقفه، وجعله يعيد النظر، ويُكثر التدقيق، فبدأ ينظر إلى الصورة الكبيرة، ثم يقترب منها بقوة ليرى التفاصيل الصغيرة، مثل توزيع الإضاءة، والطاولات، والمقاعد، والديكور، وحقق له ذلك نجاحات باهرة في عمله، وهذا ما نحتاجه لنفهم وننجح.
ونحن نقرأ، أو نقيِّم، أو نتأكد نحتاج إلى أن نمتلك كافة أدوات التوثيق، وفلترة المعلومات، والتثبت منها، وتصفيتها لتكون ماءً زلالاً، نشرب من معينه مطمئنين على نقاوته وصفائه، هذه التربية الإعلامية التي يجب أن تُبنى على المعرفة والقراءة والاطلاع والبحث عن سنابل الدهشة الحقيقية بين هذه الحقول الإعلامية مترامية ومتشعبة الأطراف، والمتعددة في أهدافها وتوجهاتها، التي تتطلب منا أن نقلب نظرية حراسة البوابة لنكون نحن الحراس والمعنيين بمعطيات الحقيقة التي لا يحرسها غيرنا، وأن نحدد زواياها، ومقدارها بما يخدم مصالحنا دون وجود وسيط يقوم بعملية انتقائية، أو تحريف للحقائق لنظل نلعب دور المتلقي، أو المستهلك الإعلامي، ففي أي مؤسسة إخبارية هناك عدد من الأخبار التي يتم ترميزها بطرق تلبي متطلبات وسيلة الإعلام، وأذواق الجمهور لذلك يصبح الموظفون في هذه المؤسسات الحراسَ لها، فيسمحون بمرور بعض الأخبار، وتقييد ومراقبة، وتشكيل معرفة العامة بحقيقة الحدث، الذي يقع بالفعل، وذلك دورهم في صناعة الإعلام، والرأي العام من خلال القصص الإخبارية، والسيطرة على المعلومات، وأنشطة الاختيار، والإضافة والحجب، والعرض والتوجيه، والتشكيل والتداول، والتكرار والتوقيت، والتعريب والتكامل، والتجاهل، وذلك يجب أن يخلق لدينا فكرة المبادرة لكي نحرس الحقيقة، ونعرفها بعيداً عن الوسطاء والانتقائيين، أن نشكل تلك النظرة الواعية والناقدة في عيون جيلنا الجديد الذي لا يصدق كل ما يسمع، ويبحث عما وراء الخبر، ويعرف كيف يختار مصادره الإخبارية، أن نبني ثقافة الحقيقة، والبحث عنها، والتخلي عن أخبار «التيك أوي»، والخروج منها إلى مبدأ التروي والتوثيق والتفكير الواعي، الذي يقرر متى وكيف وأين ولماذا يقبل المعلومة، أو يرفضها.

بعود ثقاب واحد

وأنت تصطاد فكرتك وتلقي الطعم لأغبى سمكة في البحيرة تلك التي اختارت نهايتها على يديك تذكر أن هناك أسماكاً ملونة أخرى جديرة بالوقوع في شباكك وأنك بحاجة إلى مزيد من الذكاء لتصطاد أذكى السمكات وتغويها بابتلاع الطعم تذكر وأنت تكتب فكرتك الفذة وترسم طريق حروفك قول الجاحظ: الأفكار ملقاة على قارعة الطريق المهم كيف نتناولها، ولا تنس شغف الفراشات بالضوء تقترب منه فيحرقها ولا تستفيد من تجارب الفراشات المحترقات فدائما ما تتكرر حكايات الاحتراق أو الاصطياد لأن ذاكرة الأسماك التي لا تتجاوز الثواني الثلاث وذاكرة الاحتراق لدى الفراشات لم تردعها عن تكرار التجربة.
يقول نيتشة: نحن لا نتحرر إلا من خلال التذكر، ويقول مصطفى الحلاج: «أظن أننا لن نتحرر إلّا بالموت» وما بين الاحتراق والتذكر تنمو الأماني لأنهما حكايتان في مفصل الحنين ولأن المفكر والمبدع هما ذاكرة الأمة وضميرها الذي يتذكر إذا نسي الآخرون وهو يشعل في كل ليلة محرقة التذكر والنسيان وهو يواسي مشاعره ويصطاد منها ما ينطبق على النص فلا يخرج عن النسق ويظل يواسي الذاكرة.
فهو المعني بالتغيير والتنوير والتفكير وصياغة المعنى بما يليق بالحقيقة التي قد يؤثر بعضهم تجاهلها ونسيانها ويعود الكاتب ليعزف على أوتارها ويسقط قطرة الذكريات على جدب الأرض كي تتذكر هي الأخرى ما نسيته من الأقدام التي سارت على ثراها.
إنها الذاكرة التي تكفي للنسيان للهروب من الواقع وتقمص أدواراً غير حقيقية في الحياة والانتماء إلى لغة أخرى فما قيمة المفكر دون ذاكرة وما قيمة التجربة وسط سلال معبأة بالنسيان وهذا ما يجب أن يستحضره مثقفنا العربي وجيلنا الجديد الباحث عن السمكة الذهبية لابد وأن يستوعب أن الفكرة البسيطة يمكن أن توقد جذوة الاختلاف وإنهم بعود ثقاب واحد يمكنهم أن يحرقوا أكبر الغابات وإن شجرة واحدة يمكنها أن تنتج آلافاً من أعواد الثقاب ومن هنا يجب أن يطل الاختلاف والوعي في استخلاص التجارب الماضية وتذكر الناجح منها والعمل على الاستفادة من كل ذلك في التعبير عن الذات وصناعة الغد بالأفكار الخلاقة والإبداعية والنظرة المختلفة التي تصنع الفارق بين الأجيال الذي لا يأتي إلا بالوعي والقراءة والخروج من صندوق الفكر النمطي بفكرة تتجاوز حدود المربع إلى التفكير الإبداعي والتخلص من الحلول البديهية إلى المبتكرة للوصول إلى مناطق رحبة من التفكير ورسم خريطة جديدة للواقع بما يعزز تطور المجتمع وتنميته بناء على تجارب الاستثناء والاختلاف.

بتوقيت السعودية

عليك أن تضبط ساعتك على توقيت الرياض أولا… وأن تراعي فارق التوقيت.. ففي كل دقيقة قرارات صادرة ورادعة للإرهاب، في كل دقيقة تقول الأحداث إن هناك توقيتا حتميا لفرض الأمن في المملكة، واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية والرادعة للضرب علي يد المخربين والمغرضين ومن يريدون ويحلمون بلمس سماء الرياض أو التفكير في التقدم على شبر واحد من أرضها أو إغراق شوارعها في الحزن وفرض سيناريو جديد على واقعها، عليك أن تضبط ساعتك على توقيت السعودية التي تقرأ واقع العالم وتعرف دورها ومسؤولياتها وقيمتها في العالم الإسلامي، حيث اتجهت بوصلة القرارات الحاسمة والصارمة نحوها بعد أن تابعت مجريات الأحداث وردت بصرامة القيادة الحكيمة على مدبري أعمال الشغب من المضللين تحت شعاراتهم المتزايدة والمتنامية والبراقة، السعودية فرضت توقيت سيادتها الوطنية للأمن الوطني بالقوة، كما وقفت خلف المبادرات العربية والإسلامية لصد الإرهاب والجماعات المتطرفة التي بدأت تنخر في جسد الأمة العربية والإسلامية، التي أخذتنا إلى متاهات غريبة لم تكن في الحسبان، تلك الجماعات التي بدأت تخرج من تقزمها لتظهر ككوابيس في أحلامنا، وهي تحاول أن تتطاول لتأخذ منا ما عشنا سنين طويلة ونحن نحرسه إنه «الأمان»، تلك الكلمة الضائعة التي لم نعرف كيف نركبها في صفحات التسالي العربية، وكلما جمعنا حروفها سقط حرف في هاوية التشرد واللجوء، ذلك الهم الذي قلب طاولة العالم بأسره وجعله يفتش عن حلول لهذا الواقع المفزع ،الذي سرق من الصغار حقائب المدارس وغرف النوم وأكواب الحليب وحكايات ما قبل النوم، وأخذهم إلى قصص مفزعة لم يعرفوا كيف يستيقظون منها بتوقيت السعودية. يمكن أن يعرف كل مواطن ومقيم على هذه الأرض أن الأمان فرض واجب وأن الحفاظ عليه خط أحمر لا يمكن المساس به أو تجاوزه، ذلك الذي يجعل الإنسان السعودي ينام وهو يشعر بأن هناك عينا تحرسه بتوقيت لا يساوم في قضية الأمان ولا يسمح بتجاوز خطوطه، بعد أن قرأ الدرس واستوعبه ووضع خططه وإستراتيجيته لإكمال نسيج الخيمة الآمنة التي يستظل بها كل من يعيش على ثرى هذه البلاد، ويتوجب عليه المساهمة في حمايتها والحفاظ على أمنها. فالأمن هنا مسؤولية مجتمع وأسرة ومواطنة، ولم أستغرب عندما سمعت عن قصص لآباء وأمهات قاموا بالتبليغ، معتبرين ذلك واجبا وطنيا يجب الحفاظ عليه، ورضوا بأن يفدوا هذا الأمن الوطني بأغلى وأثمن ما يملكون وهم «أبناؤهم».
هذا التوقيت الذي فرضته السعودية هو شعور أبنائها بدورهم في الحفاظ على أمنها، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ عليه وحمايته.

رصاصة الرحمة

إنها الرصاصة القاسية الباردة، التي تنطلق من يدك قبل روحك، وتخرج من عقلك قبل قلبك، تلك التي تفر من أعمق منطقة في الوجدان مع شهقات الحنين الإجباري عندما تغمض عينيك حتى لا ترى أمامك اللحظة، التي كنت تخاف منها، وألا تسمع أنينك، وأنت تغادر محطتك الأخيرة، وتسحب أجهزة التنفس الصناعية عن آخر دفقة حياةٍ كنت تعيشها، وتختار أصعب قرار بالابتعاد عن كل ما كان يبهجك، ويشعرك بالأمان، وأنت تصوب بندقيتك الصارمة نحو قلبك، وتهديه رصاصة أخيرة كيلا يرتجف، ويصمت إلى الأبد، كي تسقط آخر ورقة يابسة من شجرة العمر، هذه اللحظة التي وقف فيها «بندول الساعة»، وعاشها معظم الناس حائرين تجاه مرضاهم، الذين يتعذبون من شدة الوجع، وهم يقفون أمامهم دونما حيلة بعد أن شارفت حياتهم على المغيب، وهم يقاومون شعورهم بالعجز، والحيرة قبل أن يمتلكوا جرأة اتخاذ خطوة عاجلة، وموجعة في الاتجاه الصحيح، وهم يعدون حصى الطرقات غير المنتهية.
تلك اللحظات، التي تنبت من رحم الحنين لكل الخيارات الصعبة، التي اتخذناها، وكانت فارقة في مفصل الحياة، وفي نظرنا قرارات غير منطقية، ونحن نعرف أنها ستظل في القلب غصة، وأنها ستنبت كالشوك بين أعشابنا الخضراء، لندوسها، ونحن نشعر بجمر الأقدار، الذي لا يواسي أقدامنا، ندوسه، ونمشي عليه، ونحن نعرف أننا سنواصل المسير مهما تألمنا لتتحول كل حكاياتنا في النهاية إلى ذكريات، تعبر على القلب، فتجمعه كله في لحظة ألم، ثم تنجلي، فمَنْ منا لم يطلق على قلبه، وحياته، ومشاعره، وعلى أشيائه الحبيبة رصاصة رحمة؟
ومَنْ منا استثناه القدر من هذه «الروشتة الأزلية»، التي أخذنتا إلى مفترق طرق، استعصت معها الحلول، وكانت النهايات المؤلمة هي الحل المثالي، الذي يجب علينا أن نقبله؟
ولم يتوقف تداول هذا اللفظ للحديث عن المشاعر الإنسانية الخاصة، وإنما تجاوزها ليحكي عن مختلف قضايانا العربية، والإسلامية، التي تنتظر رصاصة رحمة، تنهي معاناة شعوبنا، رصاصة واحدة فقط تنهي مهزلة المؤامرات، والتشرد، واللجوء، وصقيعنا العربي، رصاصة تكفينا لاختيار حل مثالي، وموجع، ولكنه يصنع رمقاً أخيراً، ودفقة حياة جديدة، صارت هي كل أمنياتنا.
لتبدأ دورة حياة جديدة، يعيد فيها التاريخ نفسه، ويذكِّرنا بتكرار الرصاصة تلو الرصاصة، نطلقها بأيدينا المرتجفة لننهي معاناتنا، ونعود لنتذكر، ونحن نكرر ذات التجربة، ونطلق ذات الرصاصة في كل مرة نغفو فيها بالقرب من حلمنا العربي، الذي نتمنى أن يُولد من رحم الأزمات سوياً، وكبيراً، وعظيماً بحجم أوجاعنا.
يقول الشاعر محمود درويش:
أغار من الحصان، فإذا انكسرت ساقه وأحس
بإهانة العجز عن الكر والفر في الريح …
عالجوه برصاصة الرحمة. وأنا إذا انكسر
شيء فيَّ، جسديٌّ أو معنويٌّ، أوصي
بالبحث عن قاتل ماهر، حتى لو كان من
أعدائي. سأدفع له أجرة وثمن الرصاصة
سأقبل يده والمسدس. وإذا كنت قادراً
على الكتابة، مدحته بقصيدة عصماء، يختار
هو وزنها والقافية!

على ورقة بيضاء

يمكنك أن تغيب في محراب الكتابة وتمارس طقوسها عندما تقف على ناصية ورقتك البيضاء وتجلس أمامها وجها لوجه لتستجوبك على طريقتها وتدعوك لعملية طهي حروفك الطازجة في موقد المعاني والتراكيب لتضع في النهاية وجبتك المفضلة وترجمة أفكارك في صحن مزخرف من فضة الورق ذلك الوعاء الذي يوثق خصوصيات الكتابة وكواليس الأعمال الأدبية التي ينثرها المبدعون محتفين بحبرهم الإبداعي منتصرين لرحلة القلم ذلك الجندي المجهول الذي يحفر أقدامه على ظهر الورق ويدون أعمق منطقة في الوجدان متجاوزا عملية الاختلاف في طبيعة التعاطي مع لحظة التجلي الإبداعية التي يجدها بعض المبدعين في لحظات بكور الصباح أو وقت الغروب أو عندما يعم الصمت في آخر الليل بينما يحاول بعضهم البحث عن مكان هادئ للانزواء فيه وارتشاف كوب بارد من الماء أو فنجان قهوة حالكة السواد وهو يضع مفارقاته على منعطفات الوقت ويحس بكل ورقة خريف سقطت من الذاكرة وقد يختار قلما عفويا يحمل لون أفكاره أو قد يختار قلم رصاص ليتجنب شطب ما سقط سهوا من الحروف إنها طقوس خاصة وعادات كتابية تسير بتلقائية وعفوية أحيانا وعشوائية أحيانا أخرى أو كما يرتب لها الكتاب من أوقاتهم وأدواتهم ليتهيئوا لنقطة البدء في اختلافات جذرية بينهم فمنهم من يكتب في كل الأمكنة والأزمنة ولا ينتظر النزول من القطار أو من على سلم الطائرة أو توقف المطر والريح ومنهم من توقظه الفكرة من نومه ليركض إلى ورقته ليدق فيها مسامير أفكاره ويصنع خيمة الغد ويغزل بقلمه حكايات مدن من السكر والملح وآخرين يكتبون وهم يزيحون حبات المطر والندى عن بتلاتهم الإبداعية لكل منهم فلسفته الخاصة وطريقته التي يحتفي بها.
فعندما يكتبني الكلام أفضل أن أنزوي في مكان لا أسمع فيه غير صوت حروفي تتراقص وتحلق كالعصافير على رأسي وفي زفرات الحروف آخذ نفسي إلى مكاني الهادئ الذي أتلبس فيه بالكتابة محتفية بيدي المنحوتة على سطح المكتب الخشبي الذي يحتويني كلما أردت أن أفرغ سلة التوت من حروفي فتكتبني الكلمات قبل أن أكتبها بلوني المفضل وهو “الأسود بالخط العريض” وبعد أن أنهي إشكاليات تناقض البياض والسواد ومواسم الهطول أعود منتشية بلحظة ولادة يعيشها جميع الكتاب والمبدعين بعد أن يضعوا أقلامهم جانبا وهم ينفضون ما تبقى من حبر الذاكرة وهم يكررون طقوس الكتابة ويحتفون بزواياهم وصناديق أدواتهم الكتابية الخاصة.

نعم أنا مزاجي

اصعب ما يمكن أن تصادفه في حياتك هو صحبة المزاجيين، أو العمل والتعايش معهم فذلك أشبه بالتحليق عاليا على ارتفاع مائة ألف قدم في طائرة هليكوبتر في رحلة مثيرة ثم السقوط فجأة والارتطام بالأرض، إنهم الأشخاص الذين تظل في حالة قلق إزاءهم فدائما ما تظل علاقتك بهم بلا ضمان أو حماية؛ لأن أصحاب هذه الصفة يكونون مثاليين في بعض الأوقات، وفجأة ينقلب سلوكهم إلى قسوة يصعب التعامل معها بسبب تقلبات الطقس المفاجئة في التصرفات وردود الفعل، فيقبل الأشياء مرة ويرفضها مرة أخرى مما يجعل المجتمع المحيط في حيرة تجاه هذا الشخص الـ «مودي» الذي لا تدوم أفكاره على حال وقد يرجع الأمر لديهم نتيجة للشعور بالفراغ، أو ضعف الشخصية وعدم القدرة على ضبط الانفعالات، وفقدان معرفة الذات والعجز عن التعرف عن الأمور التي يريدها أو النتائج التي يطمح إليها مما يجعله ذاتيا يشعر بالحيرة حينما تتضارب الآراء حوله حيث إن انفعالاته تسبق أفكاره مما يجعله يشعر بالندم، والحساسية المفرطة تجاه النقد هذه الشخصيات التي تعطي بسخاء وقت الرضا وتأخذ بعنف وقت الغضب فهي كثيرة الشك في سلوكيات الآخرين، وغالبا ما تتسرب إليها الكآبة والشعور بالملل، ومحاولة تفريغ الطاقة السلبية في الغير مما يتطلب الهدوء من الأطراف الأخرى في مواجهة هذه الشخصية، والتحلي بالصبر لحين مرور هذه العاصفة ليعود الجو هادئا مع تجنب الجدال، وتنبيه هذه الشخصية إلى أن مثل هذه التصرفات قد تجعله يخسر علاقاته فليس لكل الناس القدرة على الصبر أو التغاضي عن هذه التصرفات كما يجب أن لا يعول أصحاب هذه الشخصيات كثيرا على تفهم الجو المحيط لحالاتهم الانفعالية الطارئة وأن يحاولوا العثور على سبل تدريب الذات على الحد من التوتر عن طريق العلاج النفسي الإدراكي للسلوك.
وقد أكدت الدراسات العلمية أن الوراثة لها دور كبير في تكوين تلك الشخصية٬ بالإضافة إلى التربية التي يستخدمها الأهل في التعامل مع أبنائهم٬ سواء في مجتمع الأسرة أو المدرسة أو العمل.
وبسؤال كل منا لنفسه هل أنا مزاجي؟ يمكن أن نصل إلى مجموعة من الحلول للتخفيف من وطأة هذا الأمر وتأثيراتها الخطيرة على فقدان العلاقات وإيجاد سبل لإلجام التقلب المفاجئ والعمل على ضبط التصرفات والتوازن فإذا عرف الإنسان أنه يتصف بالمزاجية عليه أن يدرب نفسه ويبحث عن أهم الطرق التي يمكن أن تجنبه العزلة الأكيدة التي ستنال منه عند الاستمرار في تجاوز المنعطفات الخطيرة في الحياة بهذا الشكل.
نعم أنا مزاجي وعلي أن أدرب نفسي على الاتزان حتى لا أخسر علاقاتي وحياتي نعم أنا مزاجي سأعترف أولا أنني أتصرف مع أسرتي وفي محيط العمل بمزاجية تتطلب مني أن أعرف نفسي وأن اضبط انفعالاتي لأن الناس ستمل من مجاملتي وستتكني للعزلة.
نعم أنا مزاجي ولكن سأعيد النظر في كل ما أفعله لأصبح شخصا سويا.

ثقافة الأوبن بوفيه

نريد كل شيء في عالم شحيح لا يمكن أن يعطي كل شيء.. في وقت ما أن تستسيغ شرابه حتى يأتي ما يعكره، في وقت تجيء الفرحة فيه زائرة ويظل الإنسان في مكابدة الحياة، بين أخذ ورد وجزر ومد، يقول الشاعر الأمير خالد الفيصل:
إلى صفا لك زمانك علّ يـا ظامي اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
ننخرط في حالة هروب وبحث عما نريد، وإذا حصلنا عليه تساءلنا عما كنا نبحث عنه عن الأولويات، التي استنزفتنا واكتشفنا في النهاية أنها مجرد غواية، وأن السعادة تسكن في أبعد جزيرة عما سعينا إليه، وأننا سافرنا في مراكب تزودنا فيها بالسراب بدلا من القناعة والرضا.
في زمن يحتاج لأن نكتفي منه بلقمة سعادة قد تغنينا عن صحن ملأناه بكل أصناف الطعام، وعندما جلسنا إلى المائدة اكتشفنا أننا لا نتمكن من إكمال ربع كمية الطعام الذي قضينا وقتنا ونحن نملأه ونتفنن في إعداده، اخترنا منازلنا وشيدنا القصور ووضعنا أجمل التحف والمزهريات واللوحات السيريالية في مجالسنا التي تمر سنوات، وهي مهجورة لا تسكنها إلا العناكب، ولا يزورها إلا الغبار. تلك المؤامرة التي نعيشها للاستزادة من الحياة دون أن نفكر بأن نأخذ منها ما يكفينا ويسعدنا، فإذا جلست إلى مائدتك ولاحظت أفكار الناس تجاه المطاعم المتخصصة في تقديم وجبات البوفية المفتوح، لعرفت أن القليل منهم ما يأخذ حاجته، وأن الغالبية العظمى تريد أن تضع في الطبق أكثر مما تريد ومما تحتاج، فهل هذه يا ترى طبيعة الإنسان أم أنها تعبير عن نقص وقصور في التفكير تجاه الأشياء، التي يعتبر أصغر نماذجها هذا الشكل الغريب من التفكير في ثقافة الطعام، الذي يمكن أن تقيس عليه أمورا أخرى من الرغبة في التنوع والجشع والطمع، أو تجربة كل شيء في علاقة الاستحواذ والامتلاك.
وفي كل الأحوال، فإنني أسعد بطبق واحد أحبه وأفضل نكهته يكفيني شر الجوع ويسد رمقي، دون أن أمد يدي لمن يضن علي بلقمة ودون أن أشعر أني دخلت في مؤامرة التسمين والتنافس على ملء الصحون، التي ستأتي لحظة الاعتراض من المعدة على الاستمرار فيها، وسترفض الانصياع لرغبات المتنافسين على المغارف ستعترض أو سترفض مؤامرة الهضم وستوقف هذا التنافس المحموم. كما هي الحياة التي ستعلن في لحظة حاسمة نقطة النهاية ليصمت كل شيء ولا يمكن للإنسان أن يزيد فيها شهقة واحدة، فخذ ما يكفي زادك وحياتك بما يكفيك شر مسألة اللئام، وعش كريما بما يكفي لأن تشعر بالشبع دون أن تأخذ من قوت الآخرين.

مدين لها باعتذار

لا بد أن تقف للحظة لتسأل نفسك لمن تدين بالاعتذار؟ ولمن يجب أن توجهه؟ وقد يخطر في بالك عديد من الأشخاص الذين اختلفت معهم بسبب وجهة نظر ما، أو بسبب سوء ظن قد تسرب إلى تلك العلاقة، وقد تتردد عندما يمر شريط الذكريات إذا كان يليق بك، أن تعذر بعد هذه المدة من الزمن، وأن تحاول استرجاع وترميم ما بقي من لحظات الحنين، وبين أن تكمل مسار حياتك بعد أن تكون قد ودعت شطرًا من الذكريات، أو تركتها في سلال حياتك المبعثرة هنا وهناك، أو بين إدراج حياتك المهملة، أو على رفوف علاها الغبار، وتحولت هذه العلاقات إلى أبواب موصدة بإقفال الماضي الذي أدرت وجهك عنه ورحلت، بينما قد لا يجول في خاطرك أنك مدين بالاعتذار لنفسك! نعم لنفسك، ولكن كيف يمكن أن تعتذر لنفسك؟
فهل تعتذر لسنوات العمر التي قضيتها وأنت تُحملها متاعبك ومتاعب غيرك؟ أم تعتذر نيابة عن الأشخاص الذين خذلوك وخيبوا ظنك؟ وكيف يمكن أن لا تدين باعتذار متأخر للحظات الصبر والانحناءات الطويلة والوقوف خلف الكواليس ولعبك عديداً من الأدوار مجبرًا؟ كيف لا تكون مدينًا لها بحجم احتمالها لحالات صلفك واستبدادك ضدها، وإرغامها على مالا تريد وأحيانًا أخرى، وأنت تتذكر كم من المحطات التي أجبرتها فيها على الوقوف كظلال الصمت؟ وكم من الوقت مضى وأنت تنتظر الهطول، وتعدها بمساحات الأمل كم من الآهات والزفرات قد سمحت لها بأن تشهق بها، وكم من الليالي تركتها لتنام على وسادتها هادئة دون أن تحملها وزرك وأنت تشعرها في كل مرة أنك «لست لك»، وأنك لغيرك، وحدك مرغم على إجابة كثير من الأسئلة التي لا تحتمل الإجابات البليدة نيابة عن الآخرين لتنتصر لهم.
كم مرة عادة منهكة يراودها شعور الجنود الذين استبسلوا في كل المعارك وعادوا مهزومين، وكم من الوقت سيمضي وأنت تبحث عن من يربت على كتفك وهو يقول لك «ربنا يعوضك خير».
اعتذر لنفسك أولًا: عوضها عن حرمانك لها، اعتذر عن تفريطك بحقها عن مرات الوجع اللامتناهي ومجاملة الآخرين على حسابها، اجلس مسترخيًا ما بينك وبينك لتسألها عن مواطن التعب، لتضمد ما اشتعل في الروح من الذكريات، وتجلس إلى قربها ساهرًا لليلة واحدة على ضوء شمعة لا تبتلع دموعها، ولا تغص بحشرجات الألم، استلق بقربها قليلًا لتداري فيها روحك المتعطشة للارتياح، لتعاهدها على وقوفك على مفارق لحظات الفرح التي ستمنحها إياها بكل ما تستطيع من عنفوان، اجلس قليلًا لتواسيها وتجبر خاطراً كسرته بتجاهلك ونسيانك ومجاملتك وهروبك، واعدها في ليلة مصارحة مقمرة واعتذر.

الأرض وما تقول...!!

 أعترف أنني أعاني من عقدة الأرض بصفتي «لاجئة» وأني أستغرب كيف يمكن لها أن تتنكر أحيانا لوجوه سكانها وتعلن أنها لا تعرفهم وأنها لم تلدهم وتتركهم خلف السياج ينتظرون نافذة اسمها «معبر».
– على حدود هذه الأرض اختلفنا على الرغم من أنها وقفت مستغربة كيف نتنافس ونتناحر على أشبارها بينما سيلفنا رحمها في آخر شهقات العمر ونصمت للأبد.
– عندما ترخي أذنك لهذه الأرض ستعرف أنها تقول الحقيقة وأن رمالها إذا وشوشتك ستحكي لك عن الخطى التي عبرت وعن تبدل كثير من المعاني فما انتقدناه بالأمس أصبح بديهيا اليوم وبصفتها أهم الشهود فهي تقول الحقيقة… كل الحقيقة.
– الأرض علامة الاستفهام التي تنجب الصدق فإذا زرعت حنظلة فلا يمكن أن تجاملك وتمنحك وردة.
– عندما رقدت على الأرض ونزلت من سريري الوثير عرفت أن عظامها ستقول لي مالم يقله سريري وأن هناك حكايات لأجساد التصقت بها وعرفت الحقيقة قبلي مع الاختلاف بين قانون الجاذبية ومعطيات روماتيزم تخبطنا المزمن.
– تصدق الأرض الطيبة عرق الفلاح لأنها يضع فيها بذوره وينتظر الحصاد وتصدق الإنسان لأنها موقنة أنها مسكنه الأخير فتظل متماسكة تحت قدميه حتى تفتح ذراعيها وتضمه ولكنها لا تصدق نشرات أحوال الطقس التي قد تعدها بمطر سيادة وحرية قد لا تأتي.
– عندما تقول الأرض أسرارها للبنفسجات وتحكي عن فوارق السقيا ما بين المطر والجدب وامتداد التراب والخطى كيف تتذكر كل هذه الخطوات والفؤوس كيف لا تنسى وتجلس لتقرأ كتب التاريخ مواعيد الحياة.
– يتشعل العشب على هذه الأرض متمردا يركض في حين غفلتها ليعلن عناده فهو يقلد الإنسان راكضا ناهبا الأرض تحت قدميه يطويها ويحارب لأجل امتلاكها وفي حين غفلة تلفه بين ذراعيها في جنازة منطقية.
– في مواعيدها الغامضة لن تفشي الأرض أسرارها للقمر الليلي ستظل في عناقها مع البحر تحب تناقضه وتحكي مواجعها لزبده عندما يرتطم بصخورها ككل معاني التضاد والتناقض التي سجلتها دفاتر البشر.
– هذه الأرض السيدة التي تحبل وتلد الشجر والحجر والرمل وتجلس على طرف الشوارع لتتسلى بقراءة الخطى دون أن يهتز جفنها وهي تقول إنني أتذكركم جميعا يامن تحفرون بأقدامكم ظهري.
– الأرض بتتكلم عربي هذه الأغنية الوحيدة التي أتمنى أن أسمعها في هذه المرحلة وبكل «تحيز» أريدها أن تتنفس عربي.
– دائما ما تظل الأرض مشغولة بالأسئلة التاريخية فهي تتحدث بصمت عن فوارق البوار والحروب وقيمة السلام وهي تواري ثراها جنود الحياة المجهولين دون أن تثرثر بما فعلوا.
– عند كل مفصل من حدود عالمنا العربي تمتد آهات الأرض التي تنتظر انتهاء كذبة الربيع وتعلن بحداد ترابها الأسود عن وجع قلبها كونها أنكرت إعادة التاريخ لنفسه بكل هذه القساوة والعنف.

كيف يقتنعون؟

تظل رصاصة السؤال المتكرر تفر من بندقية العقل متجهة نحو معرفة حقيقة الإرهاب، الذي يرتكز بالدرجة الأولى على جاذبية الإقناع، فكيف يمكن أن تقنع شخصا ما أن يفجر في وطنه ومسجده وبيته وأن يسدد طلقة لقريبه وبكل تفاخر ووحشية، وهل يكون في حالته الطبيعية التي يبدو عليها عندما يصور مقطع فيديو يعلن فيه توجهه لاستخدام حزام ناسف لتفجير موقع يضم أبرياء؟ وهل يكون مدركا لهول ما يتسبب به من إزهاق لأرواح آمنة، وما الفائدة التي سيجنيها؟
وهنا تبرز في منطقة اللامعقول المعاني الغريبة، ودائما ما يتكرر لفظ “الحور العين”، الذي كرس لسنوات طويلة لإقناعنا أنه هدف هذه الجماعات الإرهابية، التي تطاولت إلى حدود أننا صرنا نسأل أنفسنا أين ستكون الضربة القادمة، وإلى أين ستتجه البوصلة الإرهابية العمياء؟ تلك التي استنزفت ثروات المسلمين ودمرت أوطانهم وهجرتهم.
فعلى الرغم من تعددية لغة الخطاب الإعلامي حول طرق الإقناع، واستهداف صغار السن وحكايات غسيل الأدمغة البشرية، والتوريط السياسي ودور تويتر، وتداول أنباء حول استخدام الانتحاريين من إرهابيين لمواد مخدرة شديدة الخطورة، تؤدي بمتعاطيها إلى القيام بأعمال عنف جنونية وحالة من الهلوسة السمعية والبصرية، فيشاهد تخيلات لا وجود لها إضافة للعدوانية الشديدة، التي قد تدفعه إلى قتل أحد المقربين له أو قتل نفسه وصعوبة العلاج من إدمانه، إلا أن هذه المنطقة ظلت مجهولة لدينا.
تقول مجلة “لوكورييه انترناسيونال” الفرنسية نقلا عن الصحف البلغارية، إن “الذي يجعل مسلحي داعش ثابتين في الصور التي يروجونها عنهم أمام الفظاعات التي يرتكبونها، هو مخدر محرم دوليا منذ عام 1986 يدعى “كابتاغون”، وهو مخدر يتم إنتاجه في بلغاريا في قلب مخابر حلف الأطلسي”.
ويعد هذا المخدر بمنزلة إكسير الوحشية والجنس لمسلحي تنظيم داعش، حيث يتعاطون مخدرا يجعلهم شرسين ويمدهم بقدرة بدنية، كما يبعد عنهم مشاعر الخوف والألم ويضاعف من نهمهم الجنسي، وهو بذلك سلاح فتاك يستعمله الإرهابيون ليتحولوا إلى آلات قتل خارجين عن النطاق الإنساني.
مما يؤكد أهمية تبدل الخطاب الإعلامي لواقع هذه الجماعات وسبلها في إقناع الآلاف من أتباعها وعدم الوقوف عند تداعيات مبدأ “الحور العين”، فمن الواضح أن هناك سبلا أخرى وأدوات للإقناع غائبة عن الواقع الإعلامي، التي يجب أن تظهر على السطح كي نستطيع أن نواجه هذه القناعات بالعقل والوعي، ونستعد لخوض هذه المعركة الشرسة التي تديرها عقول مدبرة تضع في كل يوم مخططات تستهدف شبابنا، الذين لم يستعدوا لهذه الأسلحة، التي نحتاج للوصول إليها لنحمي أنفسنا وأوطاننا.

ولا ياسمين في أوروبا

يقول الشاعر نزار قباني «لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي» فللياسمين الدمشقي وقفة البياض على مفاصل حارات دمشق ووقفة التوق في عناوينها، فبعد أن هاجرت أقدام اللاجئين عن رمال سوريا وشوارعها فقد اللاجئون السوريون أهم ما يجب أن يحافظ عليه الإنسان وهو بيته، وعنوانه ووطنه وأمانه واطمئنانه فلم يعد السوريون بعد رحلات البر والبحر القاسية يحلمون بالياسمين، لم تعد الأفكار بريئة، وبسيطة كنهر بردى وما عادت تلقائية كسوق الحميدية ولا مليئة بالأسرار كجبل قاسيون مستدركة لتاريخ الأمويين وبصماتهم على بوابات مدنها التاريخية، لم تعد القلوب قادرة على التلفت للخلف من شدة الفزع، والرغبة في الهروب من حمام الدم والأشلاء المتراشقة عبر نوافذ السياسة التي لطخت ما بقي من عمر الياسمين المتدلي من النوافذ ساكنا أبواب البنايات العتيقة فما بين خريفين اختلف الفارق بين ياسمين الشام، وياسمين أوروبا ما بين دفء المواسم، وبردها وما بين روائح الشام، وحفاوة أزقتها وكرم أهلها رحل اللاجئون إلى عناوين لا تعرف أبجديات الياسمين فهذه الزهرة الرمز المرتبط بغوطة المكان، وقلوب سكانها عندما يتدلى منها نهر البياض ويعرش على مداخلها رافعا رايات السلام.. ولا سلام ذلك الذي يشمه اللاجئون مطرزا يعبق بأريج الفل والحبق والأضاليا والمستحية، ولا يجدونه وهم يبحثون عن وطنهم خارج حدود البياض فلا وجه الشبه بين عرائشه في الشام وثلجه وشحوبه في أوروبا، حيث لا توقظه الدهشة ويظل خاملا لا يجد من يواسيه يظل وحيدا.. شتائيا كطقس أوروبا يحتاج إلى دفء شمس الحياة وإلى لحظات الحنين تلك التي يعيشها اللاجئون في انتظار طوق ياسمين واحد للنجاة.. لم تشفع لهم فيه كريات دمائهم البيضاء ولا لهفة عيونهم كي يعودوا إلى وطن تتعالى فيه الشعارات.. وطن تحول إلى سوق مزايدات فمن يبيع هذا الدم العربي في مزادات العالم من يساوم على هذا الياسمين اللاجئ والمجروح من يدفع أكثر ومن يشرد أكثر في وطن لا يملك ياسمينه مخالباً ولا حقاً للدفاع عن أصابع الأطفال وأوراق النعناع التي أضحت خارج الأقواس، تلك حكاية المعالق التي تغرف كل يوم من هذا العمر العربي الشاسع وتصادر راحته وفرحة أطفاله وأمان عجائزه وتطلع شبابه وتصطاد برصاصها كل نبض يلوح في قوس قزح يمكن أن يخرج بديهيا في عيون السوريين «لك الله يا سوريا».
يقول الشاعر محمود درويش
في الشام، أَعرفُ مَنْ أنا وسط الزحام،
يَدُلّني قَمَرٌ تَلأْلأَ في يد امرأة عليّ،
يدلّني حَجَرٌ تَوَضَّأ في دموع الياسمينة ثم نام

وأشم رائحة الورق

للورق رائحة الليمون، وللحبر والكلمات نكهة القهوة، تسجل مواعيدها على خارطة البياض ورزنامة الاختلاف والاستثناء، عندما يندلق ليكتبها على منعطفات المعاني، ويتمرد كحصان راكض في البراري حرا طليقا باحثا عن الصهيل، ذلك قد يكون عشق كثيرين مثلي لشم رائحة الورق ولتلمس جسد الحروف النائمة على ضفاف الأفكار، وللنوم أحيانا على صدر كتاب أو تحت ظلال زيزفون الكلام، فطالما ظل الكتاب قريبا مني ساكنا حقيبتي، أو نائما بالقرب من وسادتي، ولطالما من شوقي لبعض الحروف أدمنت شم رائحة عطر المعاني، لطالما حلمت بموعد غرامي وخلوة شرعية مع كتاب أصافحه أحيانا وأضمه أخرى، وأعطر صفحاته بنكهتي، أو أن أسجن وردة وأغرزها في وسط قلبه، لطالما أحببت ما يبهرني وما يصدمني من مغامراته غير المتوقعة تخطفني إلى زهر اللوز المعلق بين صدى السطور، وأتوق له حينما يسكن رفا من ناصية قلبي، ذلك المغوي الذي جعل كثيراً من الكتاب والمبدعين يسهرون الليل الطويل ليخطوا حروفهم، وهم يعجنون لنا الصبح من وصفاتهم الخاصة وخلطاتهم السرية، التي تسجل بصماتهم على الكتب تلك، التي تراكمت على الأرفف في زمن التقنيات الحديثة، التي سرقت الأضواء من الورق وانفردت بتزايد المتابعين، إلا أنني أثق أن هناك من يرى في الصحف اليومية والكتب الإبداعية، وجها آخر يحميها من التهميش ويعيدها إلى جاذبية ملامح الكلمات تسكن أناملنا، وقد تم وصف إدمان رائحة الكتب من قبل فريق من الباحثين الكيميائيين بأنها: «مزيج من عشب مع مسحة من الأحماض، ولمحة من الفانيليا مع نسبة من التعتيق الكامنة» حيث يصنع الورق من المواد العضوية مثل الورق، والحبر، والغراء، والألياف، وكل هذه المواد تتفاعل مع الضوء، والحرارة، والرطوبة، وحتى مع بعضها بعضا على مر السنين، وتنتج عددا من المركبات العضوية المتطايرة. ولكن القصة أكثر من مجرد رائحة للكتب ومن مجرد مزيج متوازن من الفانيليا والعشب، إنها الذكريات التي يشمها الأنف لارتباطه بالجهاز الحوفي المسؤول عن عواطفنا. وبالتالي، يعد الأنف واحدا من أقوى الطرق لتحريك الذكريات، والعنصر الأكثر رغبة لاستعادة أسعد لحظات القراءة، فلا شيء يشبه رائحة كتاب حقيقي قلبته أناملنا وشعرنا به كائنا حيا يقظا يسكن بين أيدينا، نلمس فيه مانريد ليظل متسيدا للموقف، فعلى الرغم من ابتكارات التقنية وجاذبيتها تظل لرائحة الكتاب ولملمسه سطوة الحضور وهيبته.

وللطفولة حقها

قد تتمكَّن من جلب الشهرة لطفلة صغيرة دون سن العاشرة، وإغوائها بالنجومية باستخدام أدوات بسيطة، كأن تجلب لها فستاناً بألوان لافتة، وبعضاً من أدوات المكياج، وأحمر الشفاه، وتدريبها على بعض الحركات والرقصات والكلمات اللافتة، وبذلك يمكنك أن تحصل على عرض مميز وجمهور عريض، وحمى تداولٍ لهذا المقطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قد تتجاوز المعقول، ولكن ما يجب أن تعرفه هو أن هذه الأساليب هي انتهاك لحقوق الطفولة بسبب تشجيع الصغيرات على مثل هذه الممارسات بهدف الاستعراض، وجلب الشهرة، وأنها تعتبر جريمة في حق الطفولة، لأنها تؤدي إلى إخراج الصغيرات من عالم الطفولة بهدف الوصول إلى الشهرة مع تجاهل وجود قوانين رادعة تحمي الأطفال، حيث يحق لأي شخص أن يرفع قضية ضد مَنْ قام بتصوير أطفاله دون علمهم، كما يحق لأحد الأبوين إذا كانا على خلاف، وقام الآخر بنشر مقطع للطفل دون علم الطرف الثاني، رفع قضية عليه، فاستغلال الأطفال في مثل هذه المجالات أمر يعاقب عليه القانون، ويعتبره انتهاكاً لحقوق الطفل، ويندرج تحت «الإيذاء الجسدي»، بحسب القانون المتعارف عليه في بعض الدول وفق المادة 36 من اتفاقية حقوق الطفل، التي تنص على أن «تحمي الدول الأطراف الطفل من سائر أشكال الاستغلال الضارة بأي جانب من جوانب رفاه الطفل». كل ذلك يستوجب يقظة المجتمع لمثل هذه النماذج، التي حوَّلت الأطفال إلى مجرد أدوات لصناعة الشهرة، وتنشئتهم على الاستعراض، واستغلالهم ليكونوا مجرد أدوات ترفيه للكبار، وتاجرت بطفولتهم، وبراءتهم دون أن يملكوا حق الدفاع عن حياتهم، وصورهم، وما وهبهم الله لهم من أمور إبداعية.
إن هناك حاجة ماسة إلى الالتفات إلى حقوق الأطفال، والتصدي لمثل هذه الظواهر، التي تحصر قدرات الطفل ومهاراته في استعراضات، تبثها وسائل التواصل الاجتماعي، وتهدف إلى تحقيق أكبر نسبة مشاهدة ومتابعة دون النظر إلى ما يمكن أن تؤثره سلباً على خصوصيته، وطريقة تصوره وتفكيره، وهي لا يمكن أن تدلل على الاهتمام بالطفل ورعايته، أو تندرج تحت كونها تنمية لموهبته، وإنما تدخل ضمن إطار الاستغلال المادي والمعنوي، و»تدوير عقلية الطفل»، وإقناعه بأنه النجم المرتقب.
إننا نحتاج إلى قراءة جديدة لواقع الطفل العربي، ومعرفة مميزاته، ليس باعتبارها أداة للظهور، وإنما يجب تحويلها إلى نماذج إبداعية وابتكارية واعدة، واستثمارها ضمن القنوات، التي تحقق له النجاح دون إسقاط فكرة الشهرة والنجومية عن شخصية الطفل، بل يجب التنبه إلى جوانبه الإبداعية، التي يمكن أن تُنتج أهم المخترعين والمبدعين في عالمنا العربي.

ككل النساء (2-2)

- ككل النساء قالت: إنها تحلم ببوابات فرح وبهبات السماء، وإنها ستتجاوز خيطها الرفيع الذي صُلبت عليه أعواماً عديدة، وتبدأ من جديد لترسم أفقها الآخر، وتبدأ من الصفر أو من تحت الصفر بدون رجل!
– ما أصعب خريف العمر على امرأة أحبت وعادت مخذولة تبحث بين خطى الرياح عن أمنيات حياتها التي بعثرتها روايات التضحيات ودورها المكرر في ذات النص وذات الفكرة.
– «فتش عن المرأة» ستجدها واقفة خلفك تغزل من ليلها ضوء الأماني وتوقظ حليب الصباح لتسقيه للصغار وهي تركض في كل الأمكنة كي تكون «أمّاً» «وزوجة»، وهي تدفع فاتورة شقاء النكران الحتمي أو المحتمل عندما تجدول نهاياتها وهي تعرف أنها تقبض على «حفنة ماء».
– «إن كيدهن عظيم» تهمة المرأة الأزلية وسلاحها الذي تواجه به سطوة القرارات الذكورية، شكراً لله فهي تحتاج لهذا السلاح.
– تعامل معها بيديه، وكرر عنفه ضدها، كانت تدَّعي أنها تسامحه في كل مرة ولا تُظهر انكسارها، لم يعرف أن الشرخ قد وصل إلى عمق العلاقة، وأنه حفر خندقاً يفصل بينهما، ويتسع كلما ظن أنه امتلكها، وأن من حقه أن يبطش بها، وأن عليها أن ترضى.
– بخيط رفيع يفصل ما بين الغرزة والأخرى طرزت وقتها بمواعيد انتظاره، كان حنوناً إلى أقصى درجة، متفهماً عطوفاً وفي كل المناسبات يثبت لها أنها اختارت بعناية فائقة مع من ستمضي أيامها «حلم كل النساء» هذه اللحظة الآمنة.
– فتش في وجوه النساء عن حكايات الرجال، عن مواعيد لم تغادر مواسم الصبح، وعن أطفال لوَّعوا ما بقي في القلب من لحظات فرح، عن صغارٍ ما عادوا صغارا.
– أمضت عمرها كله في بناء بيتها وترتيب أروقته، وفي لحظة أهداها معوله، وهدم بنيانها وكافأها بكلمة واحدة: «طالق».
– التضحية تأتي بلا أسباب، ومبررها الوحيد هو الكلمة ذاتها، وهناك نساء نذرن حياتهن كي يروين عطش الصغار، ويُشرعن نوافذ الحياة لغيرهن وبكل قناعة.
– كوني أنت ولا أنت إلا أنت.. حافظي على عنفوانك وثقتك بنفسك، فلا يمكن لوردة أن تختار أن تظل محنطة بين دفتي كتاب أو بين شفتي مزهرية.. اختاري دائماً أن تظلي على غصن الشجرة العالية، حتى وإن تساقطت أوراق العمر.
– «رفقا بالقوارير» هكذا كانت الوصية من نبي الأمة، فلماذا تكسرت القوارير إلى نتف وألقيت تحت أقدام النساء وجرحت الخطى؟؟؟
– العنفوان خطيئة المرأة الدائمة التي يجب أن تكررها كلما فكر أحد أن يشعل خوفها.. ويصادرها.
– شعوبنا العربية العاطفية التي حركت مشاعرها قصائد نزار، ورددت قصائد عنترة، وجميل بثينة، وعشاق التاريخ، لم تمنح للمرأة تذكرة حب واحدة أو خيمة دفء تواريها برد التصحّر والجفاف الذي يسكن منازلنا الفارهة.
– تحت المجهر «ستظلين أينما ذهبتِ وأينما حللتِ»، فأنت على طاولة تشريح المجتمع، فلا تنتظري إنصافك أو تفهم مواقفك، حافظي على ثقتك بقوتك التي وهبها الله لك، وسيري وعين الله ترعاك.
يقول الشاعر نزار قباني:
أيتها المرأة التي كانت في سالف الزمان حبيبتي.
سألتُ عن فندقي القديمْ..
وعن الكشْكِ الذي كنتُ أشتري منه جرائدي
وأوراقَ اليانصيب التي لا تربحْ..
لم أجد الفندقَ.. ولا الكشْكْ..
وعلمتُ أن الجرائدْ..

ككل النساء

- ككل النساء تربينا على فكرة الصبر، ولم تعرف أمهاتنا أن عزة النفس حالة يصعب تأجيلها، وأنها يجب أن تتربى كجذور الأشجار راسخة في طين كل أنثى، وأنها عنوان لكل معاني الحياة.
– كم من مرآة انشرخت وكم زاوية توجعت من بؤس امرأة مكسورة مقهورة غير قادرة حتى على البكاء أو الصراخ في وجه الألم لمن تحمل في قلبها صمتها الموجوع الكون لامرأة عجزت أن تنظر إلى وجهها المشوه في المرآة.
– صناديق النساء معلبة بالحكايات اللذيذة والأسرار الشهية، وهي كذلك لا تخلو من الحلي البائسة الوحيدة التي تنتظر لحظة فرح وخواتم تريد أن تشعر بعنفوان إصبعها.
– الكرامة هبة الله للنساء كما هي لكل البشر، فلا يجب أن تتحول إلى جثة هامدة نترحم عليها ونحن ننتظرها أن تستيقظ وحدها بدعوى الصبر والتضحيات.
– وضعت أحمر الشفاة في لمسة نسائية أخيرة، ونسيت الدمعة التي جرت سيول الكحل على خديها عندما أرادت أن تستعيد أنوثتها؛ فهناك من ذكّرها قبل أن تخطو خارج غرفتها أنه قرر إلغاء فرصتها في الخروج بقرار ذكوري ومزاجي.
– «الرجال قوامون على النساء» اقفل القوس.. أين تكملة الآية؟
– هم البنات للممات «تعيش مدللة كشجرة عالية رفيعة كزهر جلنار بين رمانات أسرتها، وبعد خطوات بسيطة وتذكرة ثوب زفاف وحلم ناصع تتحول إلى عشب في حديقة لغرباء يدوسونها ليلاً.. «يا لسخرية القدر».
– هناك تلاعب بالألفاظ يمكن أن يدين المرأة في حالة انتقائية الجمل مما ورد قديما وحديثا.. بسهولة يمكن إدانة المرأة بأي تهمة هي جاهزة وعليها أن تختار أقربها.
– ككل النساء عندما أرادت فستان زفافها الأبيض واعتنت بمكياجها وتأنقت ورقصت لليلة العمر.. لم تعرف أنها كانت تلعب دور سندريلا حتى تدق الساعة 12 وينتهي كل شيء.
– بكت بحرقة على زوجها عندما وافته المنية وترحمت عليه وتمتمت بدعائها له. كانت في كل ليلة تشم ثيابه وتشرب في كوب قهوته وتنصت لأحلامها عله يزورها ذات ليلة. لماذا يا ترى؟
– علقت مصابيحها بجوار لوحة مشاعر زاهية ظلت ترسمها طوال عمرها لفارس أحلام يجيء على حصانه الأبيض. هكذا قالت لها القصص القديمة، لم تعرف أن الفارق كبير جدا بين الذكورة والرجولة.
– كوردة سكنت ياقة المزهرية أيتها المرأة اليانعة يا من قطفتك الأقدار من كل حدائق الأرض.. أيتها الفراشة الاستثنائية تنثرين ألوانك أينما حللت حلقي ولا تصدقي الضوء حتى لا يحرقك فهو مخادع.
يقول الشاعر نزار قباني:
أيّتها الوردةُ.. والياقُوتَةُ.. والرَيْحَانةُ..
والسلطانةُ..
والشَعْبِيَّةُ..
والشَرْعيَّةُ بين جميع الملِكَاتِ..
يا سَمَكَاً يَسْبَحُ في ماءِ حياتي
يا قَمَراً يطلع كلَّ مساءٍ من نافذة الكلِمَاتِ..
يا أعظمَ فَتْحٍ بين جميع فُتُوحاتي
يا آخرَ وطنٍ أُولَدُ فيهِ..
وأُدْفَنُ فيه..
وأنْشُرُ فيه كِتَابَاتي.

بأم عيني.. يا قدس

«من شدة الألم» قد تفقد شعورك وتصبح دونما شعور، وذلك أخطر ما يمكن أن يهدد إنسانيتك، أن ترى مواجعك وويلات غيرك وأنت تقلب صفحات الأحداث عبر الصور التي لا تخطئ حوارها ثم تقفل أجهزتك وتخلد إلى النوم وأنت تشعر بأنك لوحة باهتة بلا معنى، أن قلبك مدينة أشباح خاوية أنك عاجز حتى عن الآه، فعندما تراقب الموت يتدلى من نوافذ القدس العتيقة ويتمطى في شوارع فلسطين ويغسل دم الشهداء في أزقتها، عندما تتكرر ذات الحكاية وتخرج الفلسطينيات يحملن المقاليع والحجارة والسكاكين ليثأرن لمواجع القدس نيابة عنك، وعندما تقف براءة الأطفال على نواصي مدن فلسطين لتروي قصص غصات الأمهات وشجاعة الصغار بينما يواجه شباب فلسطين قوة البطش الإسرائيلي بأبسط الأسلحة وبصدور لا تملك أكثر من طلب الشهادة، في هذه الحالة قد تستعيد نشرات الأخبار ذاكرتها قليلاً «لتتذكر» من جديد قضية القدس التي تخرج دائماً من بين الركام وتنهض كالمارد فينا لتعلن سيادتها على أحداث دمنا العربي المهدور وعلى ضفاف شواطئ بحرنا المالح تستيقظ حكاية القدس كنبض أحادي إجباري لا يشبه غيرة، وقد تعيدنا إلى ذاكرة مسلسل قديم كان عنوانه «بأم عيني» ذلك الذي نعرفه ونحن صغار عندما كان يحدثنا عن ويلات التعذيب في السجون الإسرائيلية وقصص الكفاح الفلسطيني التي لم تخلُ من البطولات لشخصيات واقعية تعود لتتكرر مع هوية القدس وأنفاسها التي تملأ الدنيا يقيناً بعودتها على الرغم من ظروف القضية الفلسطينية وتبعات ما يحدث في دهاليز السياسة وأروقة الخلاف والاختلاف والمزايدات والمناقصات تظل للقدس كلمتها التي يصعب أن تستثنيها نشرات الأخبار، تظل تفرض سيطرتها الدينية والشرعية التي لا تقبل القسمة على الخونة والمخونين أو على المتخاذلين والمطبلين، تظل لها سيادة الحق الذي لا ينحني للقمع ولا للتلاعب، لديها قوة إيمان الفلسطيني بقضيته وأرضه ضارباً عرض الحائط بقيادات لم تعُد تقنعه أو تمثله ولا بعالم شاسع لا يسمعه، ماضياً إليها واضعاً إياها نصب عينيه ولا يريد غير القدس ولا يفهم غير القدس، ولا يسمع غير صوتها يضج فتنحني الظهور للصلاة خاشعة لا تطلب النصر إلا من الله وحده.. وحده لا شريك له.
يقول الشاعر الفلسطيني توفيق زياد
فلتسمع كل الدنيا … فلتسمع
سنجوع .. ونعرى
قطعاً .. نتقطع
ونسفّ ترابك
يا أرضاً تتوجع
ونموت .. ولكن
لن يسقط من أيدينا
علم الأحرار المشرع
لكن .. لن نركع
للقوة .. للفانتوم … للمدفع
لن نخضع
لن يخضع منا
حتى طفل يرضع

حياكة الإرهاب

تلك المرأة التي حاكت بإبرتها ملابس الصغار وأحلامهم وطرزت على طرف منديلها الأبيض اسم من تحب، تلك التي سجلت بصمتها بغرزه الحياة والحرية والشموخ تلك التي جلست إلى ماكينة الخياطة لترقع فقر أسرتها، وتحول قطع القماش إلى مساحات فرح تهطل مع الأعياد وحكايات ثياب الدراسة، وهي التي حنت ظهرها طوال الليل وهي تحيك كنزاتها حتى تشرق ابتسامات الصغار في الصباح، وهم يرون ملابسهم نظيفة مرتبة تنتظرهم معلقة على بوابات الأمل مع الشروق، وهي التي طرزت ثوبنا العربي وصنعت قفطانه وأوشحته وغزلت كوفياته وعمائمه، وقصت المترهل من معاني الحياة ووضعت ضمادات لجراحنا النازفة إنها حمامة سلام ودرع الحماية وصمام الأمان والفتيلة التي يجب أن لا تنزع من رحم الأزمة والظهر الذي يجب أن لا ينكسر عند تكالب الأعداء تلك التي تقف لترفع واقعها ككل أعمدة خيام، وأساس بنيان الأمم ومدرسة الأجيال المرأة الأم والأخت والزوجة والابنة والحفيدة التي قال نابليون عنها «اليد التي تهز المهد… قادرة على هز العالم» إنها بانية الحضارات والمشاركة في صناعة التاريخ ودعم الأمة.
فكيف لهذه القيمة أن تستدرج إلى ساحات الإرهاب، لتغير مسارها فتحيك حزاماً ناسفاً أو جيوباً خفية لقذيفة كيف استدرجت إلى مطابخ السياسة كي تشارك في وضع السم في وجبتنا الآمنة ولقمتنا السائغة؟
لقد ظهر التأثير جلياً في صفوف النساء من خلال محاولات تجنيدهن في دعم الإرهاب وتحويلهن إلى وقود جديد في معركة ضد الإنسانية إننا نقف أمام حتمية الوصول إلى المرأة وإشراكها في مقاومة التطرف وإخراجها من قصص السبي والاغتصاب والاعتداء والتغييب الفكري إلى المشاركة الفعالة في حماية الوطن إنها الجندي المجهول الذي يجب إيقاظه وتسليحه بالمعرفة للعودة إلى ميدان المعركة وعدم تصديق الخطابات الرومانسية والروحية التي تعدها بجنات النعيم في أحضان الإرهاب، فالموت لا يخلف إلا الموت والإرهاب لا يمكن أن ينجب سلاماً مهما ارتفعت رايته وعلا صوته.
لا بد من رسم استراتيجيات لحماية وإشراك النساء في الجهود المبذولة لوقف التجنيد والتطرف، والاستفادة من جهودهن بشكل كامل في القطاع الأمني، فالمرأة قادرة على الملاحظة والتتبع وواعية بما يكفيها أن تؤدي دورها في حماية وطنها حتى لو كان المعتدي أحد أبنائها..
يقول الشاعر نزار قباني
متهمون نحن بالإرهاب..
إذا كتبنا عن بقايا وطن..
مخلع.. مفكك مهترئ
أشلاؤه تناثرت أشلاء..
عن وطن يبحث عن عنوانه..
وأمة ليس لها أسماء!
عن وطن..
لم يبق من أشعاره العظيمة الأولى
سوى قصائد الخنساء!!

اﻷنا في زمن الحرب

في كل مرحلة من مراحل تاريخنا وأزماتنا العربية لابد أن يطفو على سطح مياهنا الإقليمية فريق من التجار، والسماسرة، والمستنفعين الذين يستفيدون من الموجة ويركبونها للحصول على مكاسب مالية أو مناصب اجتماعية، وخلال هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي من تزايد عدد تجار الحروب والأزمات الذين لا يتورعون عن استغلال حتى القشة التي تنقذ الغرقى كي يوظفوها لمصالحهم الشخصية لسان حالهم المثل القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد» أولئك هم تجار الرغيف الذين يفرضون على المتضررين من هذه النكسات سداد فاتورة الحرب ويوظفون قواعدهم وقوانينهم الرخيصة في سبيل السيطرة على الفقراء والمحتاجين ضاربين عرض الحائط بكل ما يقال عن القيم الإنسانية باحثين على الأنا في زمن الحرب وقد تناولت وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية قصص اللاجئين السوريين الذين ابتلعهم البحر بعد أن كانوا سلعة لتجار يتلقفها تجار المراكب لمن ضاقت بهم السبل للوصول إلى بر الأمان، هؤلاء التجار تجاوزوا القيم الإنسانية بمراحل ليفرضوا شريعة غاب جديدة على المستضعفين والمتعبين من المهجرين وفرضوا على أولئك الفقراء إتاوات ليمنحوهم فرصة الحياة والتنفس بحرية، أتخيلهم وهم يسوقون لمراكبهم، فالمركب المطاطي يمكن أن يغرقك بعد ربع المسافة والخشبي أو الشراعي يسقطك بعد نصفها والفولاذي يمنحك فرصة العيش بتذكرة حلم «ويجعلك تترحم على أغنية محمد عبده» يا مركب الهند يا أبو دقلين ياريتني كنت ربانه.
ولم يتوقف الأمر عند حدود هؤلاء بل ظهر أيضا عديد من صناع الأزمات من الإعلاميين ووسائل الإعلام ممن يديرون قرص النار وبوصلته في اتجاه مصالحهم الشخصية ويقبضون الثمن دون النظر إلى مصلحة هذه الأمة التي بدأت تتخبط بعد أن كثرت المغارف في قدور الطبخات السياسية تجاوزت كل التوقعات، واستغلت الأحداث والظروف السيئة والصعبة التي تواجه الدول والشعوب في أوقات الحروب والأزمات وزادت الطين بله في إشعال الفتن والحروب والمهاترات التي أوصلتنا إلى طريق مسدود لم نعرف كيف يمكن أن نجد له حلا بينما وقف أعداؤنا الحقيقيون «ينكشون أسنانهم» بعد أن تناولوا وجبة لحومنا العربية الدسمة وهم يوقدون النار لإشعال هذه المرحلة التي تعتبر فرصتهم الحتمية بينما نحن نحاول أن نوقف هذا العجاج وهذا الضباب كي نستطيع رؤية طريق العودة إلى منازلنا التي استثمرها سماسرة الحرب وأخذوا منا مفاتيحها بوعود زائفة.
يقول الشاعر محمود درويش
أين سمسار كل المنابر؟
أين الذي كان.. كان يلوك حجارة قبري وقبرك
ما الذي يجعل الكلمات عرايا؟
ما الذي يجعل الريح شوكا، وفحم الليالي مرايا؟
ما الذي ينزع الجلد عني، ويثقب عظمي؟
ما الذي يجعل القلب مثل القذيفة؟
وضلوع المغنين سارية للبيارق؟
ما الذي يفرش النار تحت سرير الخليفة؟
ما الذي يجعل الشفتين صواعق؟
غير حزن المصفد حين يرى
أخته.. أمه.. حبه
لعبة بين أيدي الجنود
وبين سماسرة الخطب الحامية

رسائل العيد نص بلا روح

تقول الحكاية إننا سنحتفي بالعيد ونعاود الذكرى مرتين في كل عام، وإننا نحتاج إلى فيض من الكلمات المتداولة والصور كي نبث مشاعرنا للآخرين في مناسباتنا المتعددة، التي نحشد لها الرسائل الجماعية التي صرنا نستسهل قصها ولصقها من مكان لآخر، وأحياناً قد لا ننتبه إلى أن اسم المرسل مذيل في آخر الرسالة.
تمضي الأعياد والمناسبات ونحن نستسهل فكرة نسخ العبارات ولصقها وأحياناً دون أن نقرأها غير مدركين أن رسالة واحدة قد نكتبها بعبارات بسيطة نعني بها كل حرف كتبناه لمَنْ يعزون علينا بأنها ستحدث فارقاً كبيراً، وتخرجنا من إطار الرتابة والتكرار إلى ساحة الكلمات الحية الوارفة المشرقة المنحوتة بعناية فائقة لتستوعب مشاعر المرسل والمرسل إليه، التي لا تتطلب أن يكون كل منا شاعراً أو أديباً محنكاً أو كاتباً محترفاً، وإنما تستوجب الخروج من فكرة القطيع إلى رحابة التفكير إلى كتابة ما نعنيه لمَنْ نريد، فمن المستحيل أن مشاعرنا لدى جميع الناس متساوية وبذات القدر من المشاعر، ولعلني أتذكر كيف كنا نتجه إلى المكتبات للبحث عن الكتب، التي تعلم مهارات كتابة الرسائل التي كنا نحاول أن نحاكيها ونحن نقرأ سطورها بعناية؛ لنعاود الكتابة بروح الإبداع والتجلي، تلك الروح التي تريد أن يكون منتجها رسالة بسيطة ومعبرة ليس أكثر، وهذا ما يحتاج إليه جيلنا ليخرج من إطار الصور المعلبة والرسائل الجاهزة إلى رحابة التفكير والإبداع والمحاولة ليتمكن من تغيير هندسة الكون، التي يمكن أن تحدث بالكتابة والتفكير والمحاكاة والتقليد والمحاولة والخطأ.. إنها الكتابة التي يمكن أن تُحدث نقلة في المشاعر وفي العلاقات الإنسانية، التي يمكن أن تبرر وجودها في الصدق، والتي نحتاج أن نتعلمها كي نجيد الحديث عن مشاعرنا ومتاعبنا وأفكارنا، التي لن نجد يوماً رسائل جاهزة لتقول ما نحس به نيابة عنا. إن نسخ ولصق هذه الرسائل جريمة في حق اللغة وفي حق المرسل والمتلقي، ولا يمكن أن تنكر معنى أن تُكتب لك رسالة تخصك ولو تضمنت جملة واحدة تكون لك لشعرت بسعادة غامرة لأنها لك وحدك ولأن المرسل تفرغ لدقيقة كي يتذكرك.
وعني فأنا لا أحتاج منك أن تبحث في قاموس الرسائل عن كلمة معلبة ترسلها قبل أن تجف بحيرات الكلام، ولا أن تنسج لي رسائل الشوق من دفاترك العتيقة، اكتب لي رسالة صدق واحدة بريئة ساخنة كخبز الصباح وألصقها على جدار قلبي وسأسعد بها.
يقول الشاعر نزار قباني: الكتابة هي الجلوس على حافة الهاوية، لا على فراش حرير، ولا على سجادة تبريزية، ولا على كرسي هزاز.. إنها الإبحار في فضاء من الأسئلة دون أن يكون معك تذكرة للعودة.

اخر التعليقات