الاثنين، 27 أغسطس 2018

ضمير افتراضي

ما بين الواقعي والافتراضي خيوط يمكن أن تتشابك قصتها لتحكم دائرتها المغلقة على "الإنسان الحديث" الذي تداخلت أوراق أفكاره ما بين عالمين أحدهما ملموس والآخر مساحة لا محدودة يصعب وصفها أو لمسها لكونها قد تتجاوز الخيال أحيانا وقد ترتد إلى شخوص العالم الواقعي أحيانا أخرى، ليدخل كل منا مدينته الخاصة ويغلق الباب خلفه ويعيش حالته الخاصة كموجود يعبر عن أفكاره ومشاعره ومنطقه المختلف في جدلية التلاقي ما بين الواقع والخيال بعد أن استطاعت التقنية الحديثة بفعل قدرات الإنسان واختراعاته الفذة أن تخلق لكل منا عالما متفردا دون أن يحتاج للذهاب إلى المريخ في مركبته الفضائية، أو أن يتقدم إلى وكالة ناسا للصعود إلى الفضاء لأن العالم بكل صوره ولوحاته الاجتماعية والفكرية والثقافية انتقل إليه ليتمكن أن يصل إلى آخر نقطة من اللاحدود فيعرض وجهة نظره، أو قد يعترض ويتحاور بل لقد تجاوز هذه الأفعال إلى أخرى يقوم خلالها بالنقد والاعتراض والتعدي والقيام بفعل التجاوز على الآخرين والتعليق بما يعرف ومالا يعرف وقد يغمض عينيه ويقص ويلصق دون أن يكلف نفسه عناء القراءة ومعرفة ما خلف السطور.
وعلى الرغم من عدم تهيئة الأجيال الجديدة لهذا الزخم التقني العظيم الذي أغرق العالم بالجديد والمبتكر في وسائل التواصل الاجتماعي التي فاقت تصور الإنسان في إمكانياتها في الربط بين أقطاب العالم، إلا أن هذا الجيل استطاع الانسجام مع هذه النقلة النوعية في وسائل الاتصالات من الناحية التقنية أما عن المحتوى الاجتماعي والثقافي فهو لا يزال بحاجة إلى نظرة واعية يتم عند الدخول إلى هذا المجال بوعي حتى لا تتسبب هذه الوسائل في حصاد ذنوب افتراضية قد يظن البعض أنها غير مؤثرة وأنها تخص عالما آخر لا يمت إلى الواقع بصلة، ولعل قوانين الجرائم الإلكترونية والعقوبات التي تفرضها هذه الجهات الأمنية لهي أكبر دليل على ارتكاب الذنوب الافتراضية حيث يمكن أن يرتكبها الشخص دون أن يغادر مقعده أو سريره عندما يجند طاقاته ضد الإنسانية أو ضد القيم أو المبادئ أو عندما يختبئ خلف أسماء مستعارة لتحقيق أجندات يعرفها ولا يعرفها في غفلة من نوم الضمير، والتعاطي مع هذه التقنية وكأنها من صنع الخيال وكأنه يحق له أن يفعل ما يريد وأن يجرح بالكلمات أو أن يتعدى بالألفاظ أو أن يشهر أو يستولي ويخترق هذا المجال ثم يغلق أجهزته ويرقد دون أن يهتز جفنه، ودون أن يعلم أن عقوبة مثل هذه الذنوب لا تختلف عن عقوبة الذنوب الواقعية في الدنيا والآخرة لكون نتائج هذه التصرفات قد تكون متساوية في ناتج الإيذاء أو التخريب، مما يعيدنا إلى المربع الأول ومن أول الخطوات في هذه الحياة التي تستدعي الحذر من ارتكاب مثل هذه الذنوب، لأن نتائجها لا يمكن أن تظل افتراضية وإنما يمكن أن تكون عواقبها أشد وطأة من الذنوب الواقعية لسرعة وسهولة تحقيقها في عالم تداخلت فيه القيم التي تستدعي وقفة ضمير افتراضي يحاسب نفسه كي لا يغفل عن مثل الاختراقات وهو يظن أنه يحسن صنعا.

شجاعة التأقلم

عندما تتعثر خطاك وتسقط ثم تعود لتقف من جديد "لا تغضب" لأنك ستتعلم من هذه التجربة البسيطة اعتياد الحذر ودروس أخرى لا تخرج من كهوف الانعزال والسير بخطى واثقة على سجادة مخملية صنعها خيالك من حرير الأمنيات , وإنما قد يلقنك الفشل دروسا لا يمكن أن تحصل عليها من التجارب المكررة للنجاح الذي يجب أن لا يقنعك أن سلمه عبارة عن طريق مفروش بالزهور وانك يمكن أن تسير أينما شئت وكيفما شئت بدون ! سيعلمك أن تدرس خطواتك بما يجعلك تعرف أن الطريق مزروع بألغام المفاجآت التي يجب أن تحذرها قدمك حتى لا تؤدي إلى انفجارات مدوية تحتاج بعدها إلى فترة طويلة لإصلاح ما انعطب من الوجدان الذي يحدثك عن الأيام وأنها لا يمكن أن تظل في خطها المستقيم للأبد وإنما تتغير مجرياتها وطقوسها ما بين الحار والبارد والمعتدل لتدرك من هذا الاختلاف الفارق الذي يجعلك تجد في كل منها ما يروق لك وتحبه منها على أن تعود ذاتك في كل منعطف أن تسألها عن أسوأ ما يمكن أن يحدث أو ما يتطلب منك أن تتأقلم معه؟ وبهذا السؤال الصعب يمكنك أن تستوعب المرحلة القادمة وأن لا شئ سيتوقف لأجل هزيمتك.... لا الحياة ستنشغل بمواساتك ولا كل الوجوه التي تتراقص من حولك ستظل على وفائها , ولا حتى يمكن لأفكارك أن تظل محكومة بالمؤبد معك 
وإنما يجب أن تكتب سطور سعادتك وتخرج معانيها من قاموسك الخاص ومن وجدانك الذي يجعلك أن تتقبل مرضك أو هزيمتك أو تغير نمط حياتك أو فقدان أحد أعضاءك أو التخلي عن ذراعك أو ساقك أو عجزك وأن تتحلى بشجاعة التأقلم مع ابتكار عناصر التعويض تلك التي نراها في القصص الغير متوقعة للمتأقلمين الذين عاشوا أسوأ ما يمكن أن يحدث سواء بحرمانهم مما يحبون أو بفقدانهم لحريتهم أو لأهم الشموع المضيئة في حياتهم وبعد مرحلة قصيرة أو طويلة تظهر "معاني الإرادة " التي يصعب أن تقهر فتراه يعمل بيد واحدة أو بدون أصابع ويبدع ويكتب ويرسم ويعمل ويوجد كل السبل المؤدية للحياة رغم اعاقته بعد أن يتجاوز خطوط الاختبارات الصعبة ويبدأ في دراسة جدولة حياته وإعادة تفصيلها لكي تكون على مقاس مستجداته بعد أن توقف عن النظر إلى الخلف وأمعن التفكير فيما هو أمامه بصناعه هدف يخترقه سهم التحدي وما يتطلبه من نظرة ثاقبة بعيدة عن البكائيات واسترجاع الماضي فهل سمعت عن شخص يدل طريق الوصول وهو ينظر خلفه؟ إنها المرحلة التي تتطلب التوقف عن البحث عن حيثيات العلاقة بين التنازل والتأقلم فكل ما لا نتوقعه يمكن أن يحدث والغريب إننا يمكننا أن نتقبله ونتعايش معه وكأننا مارسناه طوال أعمارنا وذلك لما أودعه الله في النفس الإنسانية من طاقات لا تقهر فتخرج الإبداعات الفذة من المحن والتي يمكن أن تكون نعمة كبيرة تعوض الإنسان عما فقده خلال التجربة والتي لولاها لما اكتشف هذه الطاقات والقدرات الكامنة فيه وجعلت منه نموذج مشرف "لتجربة ارادة "لا تتكرر دائما.

فكرة غير مستهلكة للصيد

لا تعطني سمكة بل #علمني_ كيف _أصطاد، هكذا قالت الحكمة التي قرنت احتراف الصيد بفضيلة الصبر والقدرة على كسب العيش، وهي التجربة التي تحدث عنها المؤلف دايل كارنيجي، عندما قال "من هواياتي أن أصطاد السمك، وبمقدوري أن أجعل الطُعم الذي أثبته في الصنارة أفخر أنواع الأطعمة، لكني أفضل استعمالي طعوم الديدان على الدوام ذلك أنني لا أخضع في انتقاء الطعوم إلى رغبتي الخاصة فالسمك هو الذي سيلتهم الطُعم.. وهو يفضل الديدان فإذا أردت اصطياده قدَّمت له ما يرغب فيه، ولعل فكرة الاصطياد بحد ذاتها تحتاج إلى أن تترجم في واقعنا الحالي إلى العديد من المفارقات التي يمكن أن تشمل المتغيرات التي تحملها هذه الفكرة إيجابا وسلبا فهي يجب أن لا تقف عند حدود الصنارة والشبكة والأسماك، وإنما يمكن أن تتجاوزها إلى صيد الأفكار والفوائد والمعلومات والقدرة الذهنية على الوصول إلى تحقيق طريقة فذة في الكتابة أو في العمل من خلال رؤية خلاقة يمكن أن تتحقق من خلال التقاط الفرصة المضيئة التي قد لا تتكرر التي تجعلك تصرخ بعد طول انتظار "وجدتها".
وفي مضمون الاصطياد العديد من الجوانب التي يمكن أن نحصل عليها عندما نجند طاقاتنا للاستفادة من "مدرسة الصيد" التي ليست لها علاقة بالمادة أو عمليات النصب والاحتيال باعتبارها تتعامل مع الإنسان بصفته "صيد ثمين" يمكن استغلاله، وإنما يمكن أن نوجه الفكرة نحو طاقاتنا الإيجابية وكوامن الذات التي يمكن أن نحصل عليها من خلال التركيز في مجريات الحياة وتمعن ما فيها من عبرٍ وقصص يمكن أن تختصر فيها التجارب والقصص إلى عبرٍ وقناعات جديدة يمكن أن يتوالد منها طعم يغوي أسماك الحياة لكي تدخل إلى تجربة الاصطياد لنصل إلى الربح، فهناك نماذج في الحياة مبنية على تحمل تبعات الصيد وذكاء اختيار الطعم والعلاقة بين كافة أدوات الصيد وتضافرها للوصول إلى تحقيق الأهداف من خلال تبديل الأدوات وتكرار المحاولة للوصول إلى شعور ما أو وظيفة أو كفاءة وخبرة لا يمكن أن تنبت كالعشب فجأة وتتمدد على الأرض دون أي مقدمات، إنها لذة الوصول إلى مجهول كنت تنتظره ونتيجة غير متوقعة للصيد في الماء المالح أو في الينابيع العذبة.
يقول الجاحظ: الأفكار ملقاة على قارعة الطريق المهم كيف نتناولها؛ والجاحظ حينما يجعل المعاني مطروحة في الطريق فهذا يعني ملكية الجميع لها كالماء والهواء. ولكن العبرة في الفكر الإنساني حول كل ما هو متاح ومملوك للجميع فهناك في النهاية صيد اسمه المجهول الذي نتلذذ بانتظاره دون أن نعرفه ذلك الذي يحفزنا إلى تحمل متاعب الريح وهدير الموج في سبيل الوصول بينما يكسل البعض حتى عن مجرد البحث عن فكرة أو تغيير فهو يريد أن يحصل على الصيد السهل دون أن يبذل أي مجهود ليظل يعيش حياته كلها يبحث عمن يقوم بالجهد مستسيغا فكرة الحلول والأفكار والنتائج الجاهزة فاقدا الحماس هاربا نحو فلسفة الارتياح التي لا يمكن أن تحقق له ما يمكن أن يشعر به الصياد عندما يمسك بالسمكة ويعود ليكرر تجربة الصبر وهو يشعر بلذة الوصول إلى فكرة غير مستهلكة للصيد.

مشاعر موسمية

هل يمكن أن تتشابه مشاعرنا مع المواسم وفصولها الأربع بردها , وصيفها , وخريفها وشتاءها ؟وهل يمكن أن تكون بعض حالات اللهفة أشبة بنوبات الزكام , والأنفلونزا الموسمية؟ أو بطفح جلدي مباغت يظهر لمدة معينة ثم ينتهي كل شئ !
نعم إن هذه التغيرات التي تعصف بالكون تدخل أيضا إلى عوالم البشر لتؤثر على العلاقات التي نحاول المحافظة عليها للأبد , ولكنها تتسرب كالماء من بين أيدينا شيئا فشيئا , وأحيانا نفقدها في لحظة اختلاف أو تغيير إنها الحالة المعقدة للشعور التي تعتمد في أساسها على أسباب غير مفهومة فهي تشبه المتغيرات الكونية التي تحدث فجأة ، فتأتي بدون مبررات وقد تختار الرحيل أيضا دون أي تنبيهات , أو إنذارات مبكرة بحيث يصعب السيطرة عليها , وكأنها عملية كيميائية أو فيزيائية تربط أشياء غير محسوسة في ذواتنا , وتغلغل في أعماقنا , وتتغير بمجرد وجود أي هزة بسيطة في الحالة الشعورية التي تعترينا وقد تعيدنا إلى نقطة أولى في سطر أي علاقة لنتذكر فلسفة البدايات والنهايات ,و مشاعر التعايش التي يمكن أن تعبر عن شعور لحظة اختفت من الوجود , أو حالة مختلفة ومزمنة استمرت لمسافة عمر.
إننا نحتاج كبشر ننتمي إلى لحظات إنسانية معلنة وأن نعود لنخبئ مشاعرنا خلف برود اللامبالاة كي لا نبدو ضعفاء أمام الآخرين إن هذه الأحاسيس هي السبب الأول لتشكل إنسانيتنا وبحار أفكارنا وموانئ الأمان التي يبحث عنها كل منا في عالم اللاوعي عندما يجلس مع ذاته ليسألها عن سبب خسارة شعور ما , أو كسب بهجة هطلت كالإمطار على قلبه فهل يمكننا أن نقول إن الحب أو المشاعر الناعمة هي نقطة الضعف الإنسانية التي نكابر أنفسنا إمامها أم أنها لحظات عابرة نعيشها لفترة من الزمن ليخطفنا العمر في لهاث , وركض خلف الماديات , وسط التزامات الأسرة والعمل , ومتطلبات الحياة فلا نجد وقت لنسأل عما تبعثر منا خلال الرحلة من عواطف هي الركن الأساسي في كينونة البشر حيث ينبت سؤال هارب من أمواج الانشغال ليسأل عن وجود إنساني سقط من قطار العمر عن كتاب ذكريات لإنسان كان يقف هنا , وينظر إلى الحياة بطريقة أخرى , ويعود ليقرأ في أجندة الوجوه حالة غريبة من المواسم لمشاعر ربيعية حافظ عليها بعض منا بينما استسلم الكثيرين لرحلة الخريف , والجدب بل ووصل البعض إلى حالة من الموت , والتصحر والجفاف , واللامبالاة وخسروا أهم قيمة إنسانية يمكن أن نبقى لأجلها ألا وهي "الشعور " الذي تطاير مع رتابة الوقت وتراكم الصمت الرهيب بين السطور.

حوار مع وجهة نظر

في علاقة التأثير ، والتأثر دائما ما تظهر قصة كرة الثلج الصغيرة التي سرعان ما تتدحرج من أعلى المنحدرات، بكل ثقلها وحجمها لتكبر وهي محملة بالتجارب التي خاضتها خلال الرحلة، ويستخدم هذا المصطلح في "علم الاجتماع" غالبًا للتعبير عن تضخم الحدث، كما يشير إلى سرعة تطوره، وهذا ما نراه اليوم من سرعة انطلاق، وسائل التواصل الحديثة التي دخلت إلى حياتنا محملة بالتجارب الغنية أحيانا والفقيرة أحيانا أخرى، وعلى الرغم من كل ما حملته قصة تدحرج هذه الكرة من معاناة ومتاعب خلال الرحلة إلا أنها بلا شك خرجت محملة بالكثير من الجوانب الإبداعية لأشخاص مغمورين خلف ستائر الظروف الاجتماعية ، والنسيان أو الانطوائية.
فبينما كان الجيل السابق يبحث عن أي وسيلة إعلامية أو نافذة يطل منها نحو الغد ويعبر من خلالها عن نفسه بحث الجيل الجديد لصياغة أفكار جديدة ليفلت خيوط أفكاره من بكرة التبعية لما كان وينطلق نحو الفضاء الرحب ليصل إلى ما يمكن أن يكون، ولذلك نرى عصافير الجيل الجديد وهي تحلق بحرية بعد أن أشرع أمامها الفضاء الإلكتروني، وفتحت أمامها كافة النوافذ كي تعبر عن قدراتها فلم تعد الوسائل الإعلامية التقليدية هي المسوغ الوحيد لوضع ختم الإبداع، ولكننا الآن أمام جيل جديد يستطيع أن يسمع صوته للعالم وأن يقدم تجربته الفنية أو الأدبية أو الابتكارية دون الحاجة إلى حراس أو منظرين فما عليه سوى أن يختار أدواته، وكيفية صياغة المنتج الإبداعي والشكل الحضاري لخروجه إلى السطح وتسلقه سلم النجاح والانطلاق إلى حيث يريد.
وتعتبر إشكاليات القدرة على التعبير أو الوصول إلى تكوين صورة واضحة عن أهم مميزاتنا وكوامننا، التي كان يكتنفها الغموض تجاه أنفسنا قبل أن تكون تجاه الآخرين أهم ما نحتاج إليه مما يستدعي مسألة حوارية نناقش فيها ذواتنا التي نحتاج أن نعرفها ونغوص فيها، لنتمكن من كتابة سطورنا الحقيقية، وهذا ما يمكن أن يتلمسه المحاور مع جيل الشباب الذي خرج من لغة التأتاة إلى مفردات التحدي عبر رؤية مختلفة وجديدة يمكنه من خلالها أن يقول ما لم يكن متاحا للأجيال السابقة ومن هنا يمكننا أن نجد إعلاميين في كل مكان بلغات إعلامية، وأعمار مختلفة منها الراقي ومنها المتحضر ومنها الذي يعاني من الحشو والإسفاف وكأن اللغة ذات التعددية ملأت شوارعنا ومواقعنا الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي بما يؤكد وجود عيون ناقدة، وساهرة تتقن نقل الحدث، وترفع جاهزية المعرفة إلى أقصى درجة بما يستدعي أن نعيد النظر في آلية التحاور مع جيل رفض أن يستنشق الهواء من خلال الشقوق، وقرر أن يشرع نوافذه للمدى، ويحلق عاليا بكل إصرار وعزيمة، وهو لا ينتظر منها سوى التشجيع والمساندة وتقبل الأفكار التي تعزز هويته لإيجاد حالة إثبات عكسي لكل قناعاتنا بما يستدعي أحيانا قلب الطاولة، وإزاحة اللوحات التقليدية عن الجدران، وفرض إضاءة احترافية لرؤية أخرى تعزز الجانب المفقود في حياة تستحق منا أن ننظر إليها من وجهة نظر جيل جديد.

من زاوية خاصة

إنها اللقطة التي تأخذها من زاويتك الخاصة فقد تتجاهل فيها حائطاً جانبياً أو إضاءة خافتة، أو بقايا عبث منزلي ونفايات قريبة، وربما قد تقرر التركيز على رصد حشرة عابرة أو عصفور طائر أو لحظة لانكسار المرايا أو لقطة لحالة إنسانية مع أنك لو غيرت قليلا في زاوية الصورة قد ترصد التفات الكاميرا إلى مشهد مختلف تماما وقد يكون مخالفاً للصورة الأولى.
كل هذه المشاهد صارت توثقها شهقة الكاميرات قبل أن تطلق زفيرها وتبث الصور في كل مكان من حياتنا بلمج البصر. بما يستدعي أن نعترف أننا أصبحنا متلبسين "بثقافة الصورة" التي بدأت تغزو عالمنا المتحضر، والذي صرنا نعيشه محاصرين بلغة جديدة لحوار آخر مع البيئة المحيطة ففي كل مكان تتوقعه أو لا تتوقعه يختبئ قناص يقوم باصطياد اللقطة من زوايا متعددة في حالة مقنعة ابتكرناها لتحقيق أهدافنا في توثيق الأحداث، أو اختراق للخصوصية أو البحث عن ألبوم لذكريات عابرة قد نحتاج أن نعود إليها لنتذكر ملامحنا.
وفي كل الأحوال وصفت الصورة بأنها أبلغ من الكلام، فهي جاهزة للوصف التعبير بصمت في موعد يطلق عليه في بعض الأحيان "عصر الصورة"، والتي صار الحصول عليها في توقيت بسيط لحالة من الاستباحة والاختزال الكامل لكل ما يجري في هذا الكون في "صورة" يمكن أن تتصفحها لتقرأ الواقع بصمت ثم تقرر قناعاتك، بينما تتكاثر الصور واللقطات في كل اتجاه بما يحتم علينا عدم اعتبار هذه المقاطع أو الصور من المسلمات التي لا تقبل النقاش، وإنما أصبح من المهم لنا التّفكير في كيفية وإمكانية استغلال هذه الصّورة، ومعرفة المغزى منها، وأن نحتفظ بما تبقى من قناعاتنا بأن هناك تقنيات عديدة يمكن أن تزيف الحقائق وإننا ما زلنا بحاجة لتحليل محتواها ومضمونها، إذ إنّ ثقافة الصّورة أصبحت تتعدى مجرّد النّظر إليها، أو طلب ابتسامة جماعية من خلف العدسة "اضحك الصورة تطلع حلوة"، لأن القصة تجاوزت فكرة توثيق اللقاءات والذكريات وتعليق الصور على الجدران إلى العمل الإعلامي والإخباري المنظم الذي لا يحتاج إلى سذاجة التفكير، وإنما إلى البحث والتحليل، والتعمق لأن هناك رسائل إعلامية وإخبارية أصبحت تنطلق من حواف الصور، مما يتطلب توفر حالة من الوعي وقراءة واقع التّحول في عالم الصّور وأصبح لها تأثير جذري على كل ما يحيط بنا، إننا نعيش حالة من الاختلاف الجذريّ في النّظر للصورة وثقافتها، فبعد أن كان التّصوير الفوتوغرافي من أصدق الوسائل للتعبير عن الواقع والأحداث أصبح بفضل التّكنولوجيا الرقمية من أخطر وسائل التعبير التي تحتاج إلى وعي بفكرة الزوايا الخاصة وتاريخ التصوير ومكانه ومصداقية اللقطة، والأهداف التي تقف خلفها والتي لم تعد تحتاج إلى فئة معينة أو إلى تدريب احترافي، وإنما أصبحت في متناول الجميع، وأصبحنا نرى الأحداث في لحظة تكونها وبشكل فوري بعد أن تقلّصت الفترة الزّمنية بين وقوع الحدث وبين رؤيته، وأصبحت الصّورة لغةً شعبية، وبدأنا نعيش عالماً تُهيمن عليه الصّور الإلكترونيّة لتنقل الصّورة حسب رؤية من يلتقطها.
ويمكننا أن نقول إن الصّورة الأكثرُ شهرةً وجماهيريةً بين الشّعوب، كما أنها صارت تحتاج إلى رؤيةٍ جادةٍ وثاقبةٍ ونمط تربيةٍ وتعليمٍ يعتمد لغة الصّورة، ويشرح مقوماتها وأهميتها. إننا نحتاج لتثقيف أفراد مجتمعنا ورفع قدرتهم على قراءةِ الصّورة، وما وراء الصّورة بحاجة لأن يكون لدينا جيل واعٍ يحتاج لصورة مقنعة لحدث حقيقي "غير مفبرك" وأن يكون لديه هذه القدرة على معرفة مصداقية صورة قد تكون قد دخلت إلى عالم المونتاج وخرجت لتقلب الحقائق بسبب أجندات غير معلومة الأهداف مما يتطلب تعزيز الوعي الإلكتروني والرقمي بالمعرفة والعلم.

اختر قيدك

هل يمكن أن تختار قيدك وتحبه؟ وهل يمكن أن يكون لك حرية الاختيار؟ لتقرر إن كنت تحب أن يكون من ورد أو من ريش أو من حرير بينما قد يفرض عليك الواقع قيدا من الفولاذ أو الشوك ذلك الذي يمكن أن يترك أثرا أبديا بين أقواس روحك وجسدك بينما يمكن أن يستقر قيد آخر في فكرك أو مشاعرك أو يعشش في زوايا ذاكرتك دون أن تملك القرار في أن تضع حدا لمد القيود التي تلاحقك للأبد، فبعضها تختاره وبعضها يختارك، وأنت تعرف أنك لن تتمكن من إجراء عملية جراحية لاستئصال قيودك الراسخة، وأنت تردد في داخلك "لابد للقيد أن ينكسر" بينما يسكنك يقين أن قيودك قد تتربى وتنمو معك.
إننا ودون أن ندري نعيش قد نكون متلبسين بقيودنا التي قد لا نتمكن من الاستدلال عليها إلا عندما نطيل الغوص في أعماقنا لنتساءل عن أسباب قبول آمر ما أو رفضه كي نتأكد أن ذلك يرجع لتلك الممانعات التي تربينا عليها واستوطنت مفاصل تفكيرنا منذ الطفولة وصارت تكبر وتنبض معنا وتشاركنا أدق تفاصيل الحياة.
ولا أقف هنا لأطالب بالحرية المطلقة التي تجعل من الإنسان محلقا طاغيا على سيطرة المجتمع ضاربا عرض الحائط، ولكني أريد أن يقف كل منا ليعرف ما له وما عليه من قيود قد يكون بعضها خفيا أو وهميا في حين يحرم نفسه من حياة مختلفة بسبب تركيبة معقدة من القيود التي تغنت بها أم كلثوم حينما قالت "ااه من قيدك أدمى معصمي ..لما ابقي عليه وما أبقى عليا"، وقد تنتابك حمى الأسئلة عن أكثر القيود سخونة على واقعك وخطواتك المترددة لتتأكد أنك قد ابتعلت طعم القيود التي تجرك خلفها لمجرد أنك تعودت عليها، وإن كنت ستركض راجعا بعد أن يطلق السجان سراحك إلى أقرب قيد تضعه في معصمك لسبب وحيد هو أنك "اعتدت على قيودك وسجانك" عندما غرست هذه القناعات في رأسك ورويتها بماء القبول دون أن تسأل نفسك كيف يمكن أن تحدث تغييرا جذريا في حالة التشابه والتكرار الذي ينتابك؟ والذي يحتاج بالتأكيد إلى أن تنظر إلى قيودك وإلى الحبال الوهمية التي تعلقت بها وعرشت عليها أوراق التقبل والاستسلام.
مما يستدعي أن تفكر للحظات عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن تكسر قيدك وتطلق طاقاتك الإيجابية، وتمعن النظر في قدراتك التي لا يمكن أن تتحرر طالما أنت أسير لقناعات تكررها حتى تتحول إلى واقع الاستسلام المطلق بأنك لا تستطيع يقول نابليون: "من قال لا أقدر قلت له حاول، ومن قال لا أعرف قلت له تعلم، ومن قال لا أستطيع قلت له جرب".
إن القضية لا تحتاج لأكثر من قرار بخوض غمار التجربة بعيدا عن سلاسل العجز والاستسلام لتحقيق الإنجاز من خلال تطبيق نظرية رؤية مختلفة لقيد مختلف يطلق العنان للقدرات المحتجزة خلف وهم القيد.
يقول مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس: "ليس ذنبك أن تولد فقيراً، لكن ذنبك أن تموت فقيراً".

حتى لا تندم خمس مرات

عندما أرادت بروني وير (Bronnie Ware) الممرضة الأسترالية التي عملت في قسم العناية المركزة أن تجمع باقة من المعلومات عن الأمنيات الأخيرة لمن هم على فراش الموت، بعد أن كرست وقتها كي تصغي للصوت الخافت للحظات الغياب الأخير ما بين برزخ الحياة والموت.
وسجلت هذه اللحظات في كتابها "أكثر خمسة أشياء ندم عليها الراحلون"، حيث وجدت بروني أن المرضى في آخر لحظاتهم عندما يقفون على آخر حواف العمر لا يندمون على فوات مال، أو صفقة عمل أو خسارة تجارة، أو على ظلم المدير، أو تعسف زوج، بل كانت هناك أمور أخرى غير متوقعة، فقد كانت بروني تريد الوصول إلى حالة إجماع على خمسة حالات من الندم تختصر قصة الحياة فكان أول ما ندم عليه المرضى الراقدون على وسائد النسيان على التفكير والقلق حول رأي الناس بهم وعدم تمكنهم من امتلاك الشجاعة في تجاهل رأي الآخرين، فعاشوا حياة سلبية لا روح فيها منشغلين بمحاولة الحصول على تذاكر قبول من المجتمع، ومحاولة بذل كل ما في وسعهم في سبيل ذلك.
وكان الندم الثاني على عدم التعبير عن مشاعرهم خوفا من إغضاب الآخرين حيث ظلت مشاعرهم حبيسة أدراج القلوب المغلقة، بينما ندموا للمرة الثالثة على عدم إدراكهم أن السعادة قرار بأيديهم وليست بأيدي الآخرين فأجّلوه في انتظار أن تصلهم طرود مغلفة بشرائط الورد ومواعيد اللهفة، وطال الانتظار بينما كان الندم الرابع على ضياع عمرهم في اللهث خلف لقمة العيش بعد أن فوتوا فرصة البقاء مع الآباء والأمهات واللحظات الجميلة في حياة أبنائهم من أجل المزيد من الرزق خصوصا في أثناء مراحل حياتهم المتعددة.
وكان الندم الخامس على عدم امتلاك الشجاعة للمغامرة وملاحقة الأحلام والتي ظلت أحلاماً ولم تتحول إلى إنجازات، وإعطاء المشاكل في هذه الحياة أكثر من حقها.
ومن يتأمل في قصة الأمنيات الكثيرة لدى الناس يجد أن هناك تباينا كبيرا في وجهات النظر، وترتيب الأولويات ما بين من يعيشون الحياة وآخرين يراقبون من يعيشها، وقد يرجع هذا التباين إلى درجة التعليم أو إلى الثقافة والوعي بما يجب أن تكون عليه خطواتهم أو قد تكون نتيجة لما تربى عليه الإنسان من قناعات حول مصادر سعادته.
ولكن الجميع في النهاية قد يخلد إلى أفكار متقاربة حول ماهية الحياة وأهدافها وحالة الركض اليومي خلفها لمن يرغبون في تقمص أدوار الضحايا أو آخرين يعانون من اللامبالاة وما بين حالة من الاختلاف الشديد في أفكار الناس وقناعاتهم التي تسيرهم في مختلف الطرق تجد المحصلة النهائية عند الوقوف في المحطة الأخيرة والنظر إلى الخلف لإدراك ما يجب أن يتم قطفه في الحلقة الأخيرة من مسلسل العمر الذي انفلت كخيط رفيع من بكرة الحياة، مما يستوجب التفكير في الوصول إلى محطة لا يمكن فيها تعداد حالات الندم ولا يتم خلالها الشعور بحسرة وذلك في حالة واحدة فقط اسمها عند تطبيق مبدأ "الحياة" بمعنى هذه الكلمة والخروج من حالة "الأحياء الأموات"، أولئك الذين تمر عليهم حالة التشابه بين الأيام والمشاعر، والقناعات وفكرة التكرار بينما لا يتجرأ أحدهم في التفكير في الدخول إلى بوابة التغيير ليرقب زوايا أخرى في الشواطئ النائية عن ذهنه الذي كان يحتاج فقط إلى لحظة شجاعة لم يهتم بأن يصل إليها إلا بعد أن انتهت اللعبة وأطفئت الإضاءات وخيم الخفوت على كل شيء.
إنها الحقيقة تتجلى بوضوح الشمس حين يقترب الأجل ويضعف الجسد، وتنحسر الصحة، فتكون المشاعر، والعواطف هي الأغلى والأكثر أهمية فعندما ترقد على سرير الذكريات لابد وأن تتذكر أنك إنسان رأس ماله "إنسانيته وشعوره".

اخر التعليقات