كان السؤال المتكرر ينطلق كرصاصة تخترق رأسي في انتظار إجابة تشبه معاني اليقين، ففي أثناء تجوالي في مدينة القاهرة، كان السؤال يقفز حتى من سائق التاكسي البسيط الذي كان يسألني عندما أقر أمامه بأني فلسطينية..!!
هل بعتم أراضيكم؟
هذا السؤال المُلح الذي يموت أحياناً، ثم يستيقظ إذا اشتد وطيس الحرب في فلسطين، فمن أين يمكن أن أبدأ بالإجابة؟ وهل سأستطيع أن أقنع مقتنعاً؟ هل سأتمكن من تكرار الإجابة لكل هؤلاء المتسائلين؟ أم يكفي أن أحتفظ معي بتسجيل صوتي يرد نيابة عني؟ وفي النهاية كنت أكتفي بقول لا لم يبيعوا… بينما أعرف في قرارة نفسي أن هذه الإجابة لا تشفي غليل السؤال البليد، الذي يعطي للعالم مبررات التخاذل التي روَّج لها عديد من أبناء الشعوب العربية، التي استقت هذه الشائعات مما نشره اليهود عن هذه المرحلة، وكأن قصة البيع حكاية تبرر نوم الضمير العربي لترك فلسطين تحترق على أيدي الصهاينة، كونهم قبضوا الثمن، وحتى يحمل الفلسطينيون وزر هذه النكبة، بينما استبسل عديد من الكتاب لنشر هذه الأكذوبة المخدرة للشعوب العربية والإسلامية، في الوقت الذي يقف فيه الشعب الفلسطيني رافعاً لواء الجهاد منذ أكثر من 80 عاماً بالرغم من تكالب الأعداء، وحالة التخلي التي استكثرت حتى مجرد الشجب والاستنكار.
ولعلي أتذكر قول هتلر في رسالته إلى ألمان السوديت: «اتخذوا يا ألمان السوديت من عرب فلسطين قدوة لكم، إنهم يكافحون إنجلترا أكبر إمبراطورية في العالم، واليهودية العالمية معاً، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم فإنَّ ألمانيا كلها من ورائكم».
فهل أحكي لكل المتخاذلين أن الخسارة الحقيقية لأرض فلسطين لم تكن بسبب بيع الفلسطينيين أرضهم، وإنما بسبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948م، وإنشاء الكيان الصهيوني –إثر ذلك– على 77% من أرض فلسطين، وقيامه مباشرة وبقوة السلاح بطرد أبنائها، والاستيلاء على أراضيهم، ثم باحتلال باقي الأرض إثر حرب 1967م، مع الجيوش العربية، ومصادرة الأراضي تحت مختلف الذرائع، كما أكدت الدراسة المهمة التي قدمها رئيس قسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية بغزة الدكتور خالد الخالدي؟ أم أستفيض في دراسته حين يقول: إن الـ8.8% من مساحة فلسطين، أو المليوني دونم التي وقعت في أيدي اليهود حتى سنة 1948م، لم يحصل عليها اليهود عن طريق شرائها من فلسطينيين، بل وصل معظمها إلى اليهود عن طريق الولاة الأتراك الماسونيين والمنح والهدايا من الحكومة البريطانية، والشراء من عائلات سورية ولبنانية، وأنَّ 300.000 دونم فقط اشتريت من فلسطينيين خلال 30 عاماً من السياسات الاقتصادية الظالمة والضغوط والمحاولات والإغراءات، أي أنَّ 1/8 (ثُمن) الأراضي التي حازها اليهود حتى سنة 1948م كان مصدرها فلسطينيون.
ولكني وبعد أن دارت كل هذه الحقائق في رأسي، قلت لهم:
ما أعرفه يا سادة أننا مازلنا نحتفظ بمفاتيح بيت جدي لأبي في مدينة أسدود، وبيت جدي لأمي في مدينة المجدل، وأن الشعب الفلسطيني طوال 60 عاماً أثبت تمسكه بأرضه، واستبسل في الدفاع عنها، ولم ينتظر أحداً كي يلقنه الشهادة لأنه يحفظها عن ظهر قلب، ولأنني أعرف أن أهلي لم يبيعوا ولن يبيعوا.
أثق بأنهم صامدون هناك على الرغم من روايات نشرات الأخبار وعناوين الصحف، وأنهم لا ينصتون إلا لصوت الشهادة، ولمارسيل خليفة عندما يقول:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي
وأنا أمشي
وأنا وأنا وأنا
أمشي.