حملت الاختلافات التي أفرزتها المرحلة الحالية من الأحداث الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالعالم العربي والإسلامي تعدديةً في وجهات النظر لم تلتفت لمقولة «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، بل أظهرت أن الاختلاف يفسد كل الود وكل القضايا والعلاقات، وظهر جليَّاً اتفاقنا على المقولة التاريخية التي نتندر بها أحياناً عندما نقول «اتفق العرب على ألَّا يتفقوا»، عندما تتكرر تبدو الحالة جلية في مواسم الأحداث الصاخبة والعصيبة، عندما يفتح الباب على مصراعيه لمفاجآت الأحداث وتطوراتها المتسارعة، فننشغل بمناقشة هذه الحقائق وتحليلها بناءً على آرائنا الشخصية، و بعيداً عن الموضوعية فلكل منَّا أيدلوجيته الخاصة التي يحاول أن يقنع الآخرين بها، دون الأخذ بعين الاعتبار فكرة وجود رأي آخر، أو حتى مجرد فكرة الإنصات.
فالفارق في كل مرة هو حالة تداول المعلومات أو الشائعات التي تتكاثر بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، وبتعزيز من بعض وسائل الإعلام، مما أجَّج لغة الحوار إلى صورة لم نشهدها من قبل، بعد أن انتقل هذا الاختلاف من مجالسنا البسيطة وحوارات المثقفين في أروقة المقاهي والسياسيين في حواراتهم الخاصة، إلى مواقع التواصل التي اقتربت من الإنسان لترافقه كظلِّه، وتسكن معه في بيته، وترقد على وسادته.
هذه المرحلة الخطرة في الإعلام والميديا، تجاوزت معاني الاختلاف وتناقض الرأي إلى التعدِّي المخجل والمجحف بالسب والقذف وتبادل الشتائم عبر هذه النوافذ التي صرنا نطلّ منها بعقولنا ومشاركاتنا لتتزامن الأحداث على أرض الواقع بحرب أشد ضراوة، بتراشق بالعبارات النابية من قبل مثقفين وإعلاميين من مختلف التوجهات، ليكمل مشوار الشتائم الإنسان العادي، فصرنا لا نستغرب عند متابعة هذه القنوات التوجه العدائي الكبير في لغة الحوار، والتي تؤكد ألَّا حوار ولاتحاور، وأنَّ ما نتعلمه عن هذه الثقافة نتركه في أدراج مكاتبنا عندما يحين الوقت الصحيح للتسلح بهذه الثقافة التي هي فن للحوار المتحضر، بدلاً عن الصور الغريبة والمشوَّهة والملفَّقة لتكريس الأحقاد ضد شخصيةٍ ما.
أظلُّ أسأل نفسي عن كل البرامج التوعوية والإرشادية التي تحكي عن ثقافة الحوار والرأي والرأي الآخر، بعد أن تحوَّلت ساحات التواصل والإعلام إلى حرب شوارع وبلطجة لاتستثني أحداً، دون أي ملاحقة قانونية لهذه الترّهات، بسبب تزايدها وتكاثرها وتعب الإنسان من تعقب هذا النوع من الإجرام، الذي تحوَّل إلى ثقافةِ شتائم يتنافس فيها حتى من نعرف أنهم يملكون الوعي، والذين حوَّلوا لغة النقاش إلى مواقع تُوجِّه حرية التعبير نحو المغالطات والإساءة، يتساوى فيها العالم بالجاهل، ليتربَّى جيلٌ بأكمله على السخرية واستصغار الآخرين، عبر هذه الوسائل التي تحتاج إلى وعيٍ وتوجيهِ المسار الصحيح للحوار في زمن الحضارة.
الزمن الذي يحتاج – بحقّ – أن يستثني الأصوات النشاز، والطيور المغردة خارج السرب، ليس بالإساءة، وإنما بالحوار الهادف البناء، وأن نمنح علاقاتنا وتعاملاتنا فرصة الاحترام.