ندَّاهات التقنية
تشكلت حكايات الندَّاهات في الأدب العربي للتعبير عن الأساطير الريفية المصرية التي توارثها الفلاحون حول المرأة الجميلة جداً والغريبة التي تظهر في الليالي الظلماء في الحقول لتنادي باسم شخص معين فيقوم هذا الشخص مسحوراً، ويتبع النداء إلى أن يصل إليها ثم يجدونه ميتاً في اليوم التالي، وبرزت هذه الفكرة جلية في عديد من الروايات والأفلام العربية لتجسد فكرة النّده والهلاوس والشعور بالانجذاب إلى شيء ما، كما ارتبطت هذه القصص بالحب ودخلت في عوالم غريبة وضعها أصحاب هذه الحكايات كمبررات لاختفاء الأشخاص أو لوفاتهم أو مرضهم أو إصابتهم بالجنون والانجذاب إلى شيء معين، وما أكثر الندَّاهات التي ملأت عالمنا الذي نعيشه فكل منا صار يصغي إلى أصوات كثيرة تجعله ينجذب إليها دون أن يحتاج إلى أسطورة أو إلى مبررات إنها الكثير من المغريات والمشغلات من التقنيات الحديثة التي طغت على حياتنا، واستأثرت باهتمامنا إلى درجة الإدمان، ويمكن ملاحظة حالة الانجذاب الشديدة التي صرنا نعيشها مع وسائل التقنية والتواصل الحديثة عند عطل أي برنامج من هذه البرامج، أو تلويح الشركات المشغلة بإيقاف الخدمة عن العملاء وهذا ما شهدناه عند توقف برنامج الفايبر أو الواتسب أو قرارات تفعيل تحويل الفيسبوك بمقابل مادي التي برزت على الساحة مؤخراً، أو توقف أحد هذه البرامج من الشركات التي بدأت تدرك ارتباطنا بهذه الأجهزة التي أشبهت الندَّاهات تأخذنا إليها في أوقاتنا الخاصة والعامة، لندخل إلى جروبات الأصدقاء أو إلى المحادثات الخاصة أو قراءة الواقع فكل منا يحمل في يده هذا الصندوق الأسود المملوء بالأسرار، والاهتمامات والعلاقات العامة والخاصة، وكأن كل جهاز من هذه الأجهزة يعرف عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا يشاركنا أوقاتنا اليومية باللحظة، وتختلف هذه الصناديق باختلاف الأشخاص، فمنهم من يحب أن يحتفظ بكوامن نفسه داخلها في هدوء وكأنها مواقيت الأسرار، وآخرون حولوها إلى وسيلة للتعبير عن أنفسهم، وإطلاق العنان لأفكارهم للخروج عبر هذه النوافذ بإطلالة ذاتية على العالم ومشاركتهم الأفكار والمعلومات، والبوح، وآخرون جعلوها وسيلة لاستعراض حياتهم الاجتماعية وكل ما يدور فيها، وعرض أتفه التصرفات والصور، وما زلنا نتلقى في كل يوم جديداً من الندَّاهات التي تأخذنا من عالمنا الحقيقي إلى عالم مسحور جعلنا نستغني عن مجريات الحياة الاعتيادية، والتلاقي الاجتماعي إلى تلاق آخر يطرح سؤالاً كبيراً حول هذا العالم المسحور من التلاقي فهل صرنا أسرى لهذه المعطيات، والتقنيات التي حلت محل الإنسان، وصار يعتمد عليها في كافة شؤون حياته، وهل جهزنا أنفسنا وعقولنا، ومشاعرنا وحياتنا لندَّاهات جديدات تأخذنا إلى عوالم مسحورة أول و آخر أبجدياتها التقنية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق