للجلوس في المقعد الأخير في آخر الصفوف لذة انتقائية يعرفها من يتطلع لنظرة شمولية طاغية، يفلسفها عندما يرى المشهد كاملاً من الخلف، مختلساً النظر من هذا الموقع الضوئي البعيد لإدراك أبجديات الوقائع كاملة.
هذا الكرسي الذي كنت أختاره كلما دعيت إلى مناسبةٍ، مبتهجة بمشاهدتي وبلحظة اختفائي عندما يشتد الزحام.
هذا الكرسي لا يشبه حالة التنافس في أول لعبة للصغار في مدارسنا العربية للاستحواذ على الكرسي، ولا طموح الراغبين في تسيد الإدارات، وهم يحملون حقائبهم السوداء لإثبات شكلهم الاجتماعي، يصبُّون أنفسهم في هذا القالب، ولا يشبه الكرسي الذي يسجن المعاقين ويحرمهم من رفاهية المشي، ولا كراسي التعذيب في المعتقلات السياسية المدعمة بصعقات كهربائية وأجهزة كشف الكذب، ولا الكرسي الذي يقع خلف مقود السيارة الذي انتظرت المرأة السعودية أن تنال شرف الجلوس خلفه حتى لو بصورة تذكارية، ولا الكرسي الوثير في طرف حديقة أو في ذيل طائرة وبالقرب من صندوقها الأسود، الذي تؤكد دراسات هندسة الطيران أنه المكان الأكثر أماناً في الطائرات.
هذا المقعد الذي يحتجز آلاف الموظفين في الأرض والذي أقضي ساعاتي معه في ألفة مكان لا يتجاوز المتر المربع الواحد في مكتبي بتفاعلي مع سنتمتراته، ومع ترف فنجان قهوتي وأوراقي المبعثرة، تعلمت منه الصبر والانتظار، وفلسفة أخرى عن الركض لنيل المقاعد، فلربما يكون في مقعد آخر الصف بركة حياة نتعلم فيها فضيلة القناعة والرضا دون أن نفني أعمارنا في دفع الآخرين ورميهم تحت الأقدام لتحقيق «الأنا»، وتشكيل شخصيات تقوم على التعالي والفوقية ضمن وهج الجلوس والهيمنة، للخروج من فوبيا النقص، وصب الذات في هذا القالب «الكرسي».
ياسيدي … أينما جلست حتى لو على «الأون دك» في مركب ضالة في أعتى المحيطات ستصلك فرصة اصطياد سمكتك الذهبية طالما امتلكت إرادة الحياة والإنجاز التي وهبك الله، فالمميز أنت وليس الكرسي.
يقول امرؤ القيس :
بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونهُ
وأيْقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصرا
فقلت له: لا تَبْكِ عينُك إنما
نحاولُ ملكاً أو نموتَ فَنُعْذَرا